< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث السابق. أشرنا في البحث الماضي حول قوله تعالى : { وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً }[1] إلى أن المفسرين ذكروا معان متعددة عند تفسير هذه الآية المباركة، وقد وقفنا عند المعنيين منها، أحدهما : أن معنى الآية معنى عام وشامل لكل قرى على وجه الأرض، ومعنى هلاك القرى موتها الطبيعي والتي يكون أهلها صلحاء، وتعذب القرى التي يكون أهلها ظالمون. ومن هنا فهذه الآية تؤكد على أن فناء الدنيا والانتقال منها إلى الآخرة أمر محتوم، فإذا كان كذلك فلابد من أن يرغب المؤمن بيوم الآخرة وبالحياة الدائمة. والثاني : وهذا ما رجحه صاحب الميزان عليه الرحمة حيث أكد على أن معنى الهلاك في الآية عذاب الاستئصال، وهو فوق العذاب الشديد، غير أننا ناقشنا هذا القول مع ذكر الاستدلال فلا نعيد الكلام فيه.
الحضارات والأمم أسباب تطورها وازدهارها، وعلل انهيارها وموتها.
تؤكد هذه الآية المباركة على أن الحضارات تتولد ثم تنشؤ وتتطور وتزدهر، ثم تنهار وتموت، فقبل أن نتوقف عن أسباب وعلل تطور الحضارات وازدهارها، و انهيار الحضارات وموتها، نود أن نشير إلى مطلب مهم كمقدمة ومدخل للبحث. وهو أن سنة الله سبحانه جارية في الكون فجعل لكل شيء سبباً، فلا يحدث أي شيء في هذا الكون إلا وأن يكون وراء حدوثه سبب ما، فحياة الكون على صعد مختلفة قائمة على أساس الأسباب والمسببات. ثانيا – أعمال الأنسان تحمل آثارا تختلف حسب ماهيته، فإن كانت حسنة فآثارها حسنة وإيجابية، وإن كانت سيئة فآثارها سيئة، وكما كانت لهذه الأعمال آثار على مستوى الفرد، كذلك ثمة آثار على مستوى المجتمع.
بعد هذه المقدمة الموجزة، نقول بأن من يتصفح أوراق التاريخ ويتأمل فيها، يصل أن ثمة حضارات كثيرة تولدت، ونشأت ووصلت إلى قمة الازدهار والتطور والرقي، ثم انهارت انهياراً تاماً وماتت، وأصبحت الأخبار عنها زينة أوراق التاريخ. ولماذا نذهب بعيدا في التاريخ، أمامنا حضارة كبيرة باسم الاتحاد السوفياتي كانت تفتخر بعراقتها وقوتها وازدهارها في المجالات المختلفة من السياسة والاقتصاد والاجتماع، غير أننا رأينا بأم أعينا كيف انهارت هذه الحضارة القوية وتلاشت في أيام الماضي، وأصبحت خبر كان. وكان الإمام الخميني قدس سره الشريف قد أشار إلى انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أن تنهار، وهذا يدل على دقة نظر الإمام وعمق فهمه للواقع السياسي وما كان يجري حوله آنذاك.
من هنا نود أن نتوقف قليلاً عند سبب تطور الحضارات وقوتها، وكما نود أن نسلط الضوء على انهيار الحضارات وموتها من خلال الآيات المباركة التي أشارت إلى ذلك.
يجد المتأمل في القرآن الكريم أن ثمة آيات كثيرة تتحدث عن هذا الموضوع، فبعضها تتحدث عن أسباب رقي الحضارات وتطورها وازدهارها على المستوى المادي أو المعنوي، وبعضها الآخر تتحدث عن انهيار الحضارات وانتهاءها وموتها. وقبل أن نتوقف عند هذه الآيات المباركة يحسن بنا أن نلفت الانتباه إلى أن الله جعل أسباب تطور الحضارات وازدهارها بيد أصحابها، فهذه سنة الله تعالى تجري في كل زمان ومكان، وقد أشار إليه القرآن حيث قال :
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[2]فهذا تأكيد من الله تعالى أن عملية التحول والتطور يبدأ بيد الإنسان ومن داخله، وكذلك عملية الانهيار، يعني أي نوع من التغير يحدث من داخل الإنسان وبيده، هكذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون نظام التحول والتبدل.
علل تطور الحضارات والأمم وازدهارها في ضوء القرآن الكريم.ثمة عوامل وأسباب وعلل أشار إليها القرآن الكريم والتي من خلالها يمكن أن تصل أمة أو حضارة إلى قمة الازدهار والتطور والرقي، وكل هذه العوامل تجتمع تحت العنوان : الالتزام بما أنزل الله سبحانه وتعالى من القوانين. فإذا التزمت الأمة بتلك القوانين والضوابط الإلهية تطورت وصلت إلى قمة الكمال والقوة والنمو. وإذا انحرفت ونبذت ذلك الدستور الإلهي وراء ظهورها، فشلت في تحقيق أي نجاح، بل انهارت وماتت وتلاشت في الأيام الماضية الخالية. يشير القرآن الكريم إلى بعض عوامل تطور الأمم قائلاً : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[3] أشار الله سبحانه وتعالى إلى بعض العوامل التي تجعل الأمة على طريق التطور والازدهار وتوصلها إلى قمة الكمال والنمو والرقي. وهي
أولاً – حب الله عز وجل { يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }. إذا تشكلت وأسست الأمة على حب الله سبحانه وتعالى، وانتشرت هذه الظاهرة بين أوساط المجتمع، فلا يستسلم أهل هذه الأمة أمام نفس الأمارة، ولا يركضون وراء الشهوات، كما لا يخضعون أمام أي ظالم وجابر وطاغوت.
ثانياً – التواضع أمام المؤمنين والمستضعفين، والوقوف في مقابل الطغاة والمستكبرين. { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. من أهم علل تطور الحضارات ولا سيما حضاراتنا الإسلامية أن يتواضع المؤمن أمام المؤمن، وأن يحب بعضنا بعضاً في الله تعالى، وأن ينصر بعضنا بعضاً، وأن نكون مستعدين دائما لعون الملهوفين والمظلومين والمستضعفين، وأن لا نترفع على أحد، ولا نرى أنفسنا خير من الآخرين. بل ينبغي أن نحسن الظن بالآخرين، وأن نعتقد بأن الإخوة المؤمنين خير وأفضل منا. بينما لا بد أن نظهر بطشنا وعلونا وقوتنا وقهرنا وغضبنا لأعداء الله تعالى أعداء الإنسان والإنسانية. فإذا فعلنا كذلك لا يمكن لأحد أن يقف في طريق تطورنا و ولا يمكن أن ينتزع أحد منا العيش الكريم والحياة العزيزة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في موضع آخر أيضا حيث قال : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[4]
وأمامنا النموذج الحي للأمة الكريمة العزيزة المنيعة في صورة الجمهورية الإسلامية في إيران، التي قاومت كل ضغوطات عالم الاستكبار، وقفت أمام هجماته العنيفة، لكنها لم تستسلم أمام الشرق والغرب، بل دافعت عن حقوقها وحقوق المستضعفين في كل أنحاء العالم، والآن نرى أنها كيف خرجت منتصرة صامدة عزيزة كريمة من تلك المشاكل والمصائب والحصار الظالم والحرب المفروضة لثمان سنوات بفضل الله تعالى ومنه وبإمامة مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخميني قدس سره الشريف، وبقيادة سماحة قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي دام ظله الوارف بجهود هذا الشعب الوفي. فهذا الاتفاق الذي أنجز بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين الدول الستة التي ترأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أدل دليل على أن من يعتمد على الله سبحانه وتعالى ويرجو فضله ومنّه، ويواصل في جهوده، يخرج من المعركة منتصرا صامدا عزيزاً كريماً.
وكذلك نجد أن المقاومة الإسلامية حينما توكلت على الله تعالى، وقامت بمسؤوليتها، وتواضعت أمام شعبها، وحملت لها كل الحب والاحترام والكرامة، ووقفت أمام الكيان الصهيوني، وغطرسته، هزمته شر الهزيمة وجلعت جبروته تحت أقدامها.
من جهة أخرى نجد أن المملكة العربية السعودية باعت قرارها لأسيادها في الولايات المتحدة الأمريكية والصهاينة، وشنت حرب ظالمة على الشعب اليمني المظلوم الذي كان يعاني قبل الحرب من ضيق المعيشة بسبب الفقر المنتشر في يمن. ومع الأسف الشديد ارتكب السعودية بغاراتها الجوية الظالمة أبشع جرائم الحرب والمجازر بحق الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ في يمن ولكن رغم الغارات الهدامة والقتالة وقف الشعب اليمني بكل عزة وكرامة ولم يتنازل عن حقه في الحرية والمواطنة قيد أنملة. المهم لو كانت الأمة الإسلامية التزمت وتواضعت فيما بينها، ووقفت بقوة وثبات واستقامة أمام العدو لكانت أقوى الأمم على كل الصعد.
ثالثاً – الجهاد في سبيل الله تعالى { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } العامل الثالث في تطور الأمم وازدهارها أن تجاهد الأمة في سبيل الله تعالى وفي سبيل الدفاع عن الكرامة والشرف والإباء، لأن من يترك الجهاد ولا يدافع عن حقوقه يحرم من كل شيء وذلك أن الحق لا يُعطى في هذا العالم بل ينتزع من الغاصبين، والمثال الحي أمامنا هو لو أن الدول العربية اتحدت وجمعت قواها ونزلت في ميدان الجهاد سواء ضد هذا الكيان الغاصب لما عان إخواننا الفلسطينيون ما عانوا طيلة 67 سنة، ولما ساد الخذلان والهوان والمذلة في تلك الدول.
رابعاً - { يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } قد نرى أن بعض الأفراد أو بعض الأمم يريدون أن يقوموا بفعل الخير، أو يقفوا في وجه الطواغيت والجبابرة، أو ينصروا الملهوف أو المظلوم، لكنهم يخافون من لوم اللائمين، يخجلون من أن يقوموا بفعل الخير، غير أن من يؤمن بالله العظيم وباليوم الآخر، ويلتزم بما أنزل الله عليه من الضوابط لتنظيم حياة البشر، لا يخاف من أي شيء، بل لا يبالي بما يوجه إليه من سهام الاتهامات الباطلة والانتقادات الظالمة، بل هو يستمر بمشروعه، فهذا إشارة إلى أن الأمة الإسلامية إذا تريد أن تزدهر وتنمو في كافة المجالات فينبغي عليها أن تلتزم بالدستور الإلهي المنزل من قبله تعالى، وفي ذلك الالتزام لابد أن لا يشعر بالخجل أو الندم، ولا يخاف لومة لائم.
المهم أن أمتنا الإسلامية إذا التزمت بقوانين الله تعالى، وأسست نظامها على أساس حب الله تعالى، وتواضعت أمام المؤمنين ووقفت أمام الطواغيت بالجهاد في سبيل الله تعالى لا يمكن لأي حائل أو مانع أن يحول بينها وبين التطور والازدهار على الصعيد المادي والمعنوي.
من جهة أخرى يؤكد القرآن الكريم على أن الإيمان بالله تعالى واختيار التقوى وكسب الأعمال الصالحة من الأسباب التي تتطور الحضارة أو الأمة من خلالها قال الله سبحانه وتعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[5] فجعل الله سبحانه وتعالى سبب نزول بركات السماء والأرض الإيمان والتقوى، وقال تعالى في موضع آخر : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }[6] وهذا إشارة إلى آثار الإيمان والتقوى المعنوية على المؤمن المتقي حيث يغفر الله سبحانه وتعالى ذنوبه، ويعفو عن معاصيه، ويجزيه في الآخرة جزاء حسناً. المهم أن ثمة عوامل وعلل للتطور الحضارات والمجتمعات والأمم وكل تلك العوامل والعلل تجتمع تحت عنوان واحد : الالتزام بما أنزل الله تعالى من الأوامر والنواهي عبر أرسال الكتب والرسل.
عوامل انهيار الأمم والحضارات وموتها. أشرنا في مستهل البحث إلى أن الأمم تتولد ثم تنمو وتنشأ حتى تصل إلى قمة القوة والنمو والرقي، ثم تبدأ بالنزول وتنهار وتموت، وذكرنا أن هذا الأمر لا يحدث جزافاً، بل يكون وراءه أسباب وعلل عدة، في هذا المبحث نشير إلى بعض تلك العوامل التي تؤدي إلى انهيار الأمم والحضارات.
أولاً وثانياً – عدم الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وانتشار الظلم. من أهم عوامل الانهيار وركود الأمم وموتها هو عدم الإيمان بالله تعالى، والتمسك بظاهرة الشرك والكفر والإلحاد وانتشار الظلم والفساد والقتل في أنحاد البلاد، فإذا لم تؤمن الأمة بالله تعالى وانتشر الظلم فيها، فلا مانع يمنع من انهيارها وموتها، وهذا ما أكد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم غير مرة ومنها قوله تعالى بعد أن قص قصص بعض الأمم السالفة : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ } [7] ففي هذه الآيات المباركة نبه الله سبحانه وتعالى على أن عدم الإيمان بالله تعالى، وارتكاب الظلم من أهم ما يؤدي إلى هلاك المجتمع وانهيار الحضارة وموت الأمم.
وقال الله سبحانه وتعالى في موضع آخر مشيراً إلى أن ارتكاب الظلم سبب إنزال عذاب الله تعالى وتدمير المجتمع : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}[8]
ثالثاً – عدم النجاح في الابتلاءات الربانية. نرى كثيراً من الكوارث الطبيعية، أو الحروب، وكذلك الأمراض والفقر وإلى آخر ما هنالك من المحن والمصائب. قد تتعلق إرادة الله سبحانه وتعالى بأن يبتلى الأمة كالفرد لأنها قد ابتعدت عن الله تعالى واستغرقت بملذات الدنيا وشهواتها، هنا يأتي ابتلاء الله تعالى ليذكرها ربها، لكي تعود إلى رشدها وصوابها، وتختار سواء السبيل، فبعضها تنجح في هذه الابتلاءات الإلهية وتتذكر وتتعظ وتعود إلى الصراط المستقيم وتتضرع أمام الله تعالى، وتدعوه ليكشف عنها الضر والبأساء، لكن بعضها الآخر لا تتذكر ولا تتعظ وسر عدم الاعتبار من تلك الابتلاءات قساوة قلوب الناس. قال الله تبارك وتعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[9] فهذه الآية كما تدل على أن عدم النجاح في الابتلاءات الإلهية وعدم الاتعاظ منها سبب تدمير المجتمع، كذلك تدل من جهة أخرى أن مثل تلك المصائب والمحن يكون فرصة لرجوع الإنسان إلى طريق التوبة والإنابة إلى الله تعالى. فلابد أن يستفيد المؤمن من تلك الأزمات والمحن والمصائب، وأن يحولها إلى فرص التطور والازدهار والنمو وإعادة الحساب.
رابعاً – ترك الجهاد في سبيل الله تعالى. أشرنا تحت عنوان " عوامل ازدهار الأمم " إلى أن القيام بالجهاد في سبيل الله وفي الدفاع عن القيم والمبادئ الإنسانية والكرامة والشرف من أهم عوامل الازدهار والتطور والرقي، فكذلك يكون ترك الجهاد ومقاومة الظلمة والجبابرة والطواغيت من أهم أسباب تخلف الأمم وانهيار المجتمعات وموت الحضارات. لأن التاريخ يشهد لنا أن من ترك الجهاد ومقاومة الظلم والاستكبار أحاطت به المذلة والهوان من كل جانب، وأخذه الجوع والفقر من كل حدب وصوب. فقال الله تبارك وتعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }[10]
ففي هذه الآيات يحكي الله تعالى قصة النبي موسى عليه اسلام مع قومه حينما دعاهم إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، فرفض قومه، وقعدوا عن الجهاد والمقاومة، فكان أثر ذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بأن يسكنوا خارج تلك المدينة المقدسة لمدة أربعين سنة.
هذا بعض ما يؤدي إلى تدمير المجتمعات وانهيارات الحضارات والقضاء على الأمم، مع الالتفات إلى أن الأمم التي تنحرف عن الإيمان بالله تعالى، وينتشر فيها الظلم والفساد والقتل وما إلى آخره لا يأخذها الله سبحانه وتعالى مباشرة بل يمهلها كما يمهل الفرد ولا يؤاخذه بالعقوبة فوراً، يقول الله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[11] وقال تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً }[12]
وثمة روايات متعددة تؤكد على أن لبعض المعاصي آثارا سيئة على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع. جاء في الكافي : مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ (وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ ع قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص‌ إِذَا كَثُرَ الزِّنَا مِنْ بَعْدِي كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ).[13]
وجاء فيه " عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ؛ وَ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ : (وَجَدْنَا فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِذَا ظَهَرَ[14] الزِّنى‌ مِنْ بَعْدِي[15]، كَثُرَ مَوْتُ[16] الْفَجْأَةِ؛ وَ إِذَا طُفِّفَ‌[17] الْمِكْيَالُ‌ وَ الْمِيزَانُ[18]، أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ وَ النَّقْصِ؛ وَ إِذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ، مَنَعَتِ الْأَرْضُ[19] بَرَكَتَهَا[20] مِنَ الزَّرْعِ وَ الثِّمَارِ وَ الْمَعَادِنِ كُلَّهَا[21]؛ وَ إِذَا جَارُوا فِي الْأَحْكَامِ، تَعَاوَنُوا عَلَى الظُّلْمِ وَ الْعُدْوَانِ؛ وَ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ؛ وَ إِذَا قَطَعُوا[22] الْأَرْحَامَ، جُعِلَتِ الْأَمْوَالُ فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ؛ وَ إِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لَمْ يَتَّبِعُوا الْأَخْيَارَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُو خِيَارُهُمْ‌ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ).[23]


[14] في تحف العقول:« كثر».
[15] في الأمالي للصدوق و ثواب الأعمال:-/« من بعدي».
[16] في« ز»:« فوت».
[17] « الطفيف»: مثل القليل وزناً و معنىً. و منه قيل لتطفيف المكيال و الميزان: تطفيف. و قد طفّفه فهو مطفَّف: إذا كال أو وزن و لم يوف. المصباح المنير، ص 374( طفف).
[18] في الوسائل:« الميزان و المكيال».
[19] في مرآة العقول، محمّد باقر المجلسي، ج11، ص73 :« منعت الأرض، على بناء المعلوم، فيكون المفعول الأوّل محذوفاً، أي منعت الأرض الناس بركتها. أو المجهول، فيكون الفاعل هو اللَّه تعالى».
[20] في الوسائل و الأمالي للصدوق و تحف العقول:« بركاتها».
[21] تأكيد للبركة.
[22] يجوز فيه على بناء التفعيل أيضاً كما في القرآن.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo