< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الثانية

تعقيبا لبحثنا التفسيري في الليلة الاولى حيث تناولنا فيه قول الله تعالى: "الم . ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقينَ"[1]

نقول ان المراد من التقوى هنا ليس المدارج العالية من الايمان فحسب بل المراد ما يرادف الايمان ومما يشهد لذلك ان الله جعلها في الآيات التي تليها قسيماً للذين كفروا وللمنافقين فخصت آيتين باللذين كفروا ثم جاءت ثلاثة عشرة آية حول المنافقين الذين يقولون آمنا وهم لا يؤمنون.

نعم التقوى في نفسها من مقولات المشكِّكَة فهي ذا مراتب في القوة والضعف. ثم وصف الله المتقين بمن توفر فيه امور خمسة:

الاول : الإيمان بِالْغَيْبِ.

والغيب قد يطلق على ما وراء المحسوسات و في مقابلها المحسوسات من المرئيات والمسموعات والملموسات والمشمومات والمذوقات، فهي التي يستحيل دركه بالحواس فهي كذلك على قسمين ما يستحيل دركه بالحواس استحالة عقلية كوجود الله تبارك وتعالى فانه تعالى لا يمكن رؤيته لان الرؤية انما تتعلق بما له مادة و صورة و مكان وجهة، وهو تعالى ليس له مادة ولا صورة ولا مكان ولا جهة، ولذا يستحيل رؤيته بالبصر لا في الدنيا ولا في الآخرة و منها ما يستحيل دركه، لعدم توفر وسائله للإنسان كالملائكة والارواح فانها يستحيل دركها للإنسان و مثلها ما يتعلق بالآخرة من الحياة و اطوارها و نعيمها و عذابها. وفي هذه الدنيا ايضا وجودات لا نشك فيها ولم نرها لعدم توفر حاسة تدركها وانما نعلم بوجودها من آثارها كالجاذبة و طاقة الالكتريسته والامواج الالكترونية. والروح والعلم وسائر الصفات القائمة بالنفس فنحن نعلم بوجودها من خلال آثارها ملا يمكن لنا أن ندرك اعيانها بإحدى الحواس الخمسة.

و قد يطلق الغيب على ما غاب عنا لفوات زمانه كالإيمان برسل الله و ائمة الهدى الماضين وما تحقق من المعجزات وامثال ذالك. او غاب عنا لعدم حضور زمانه بعد، كظهور الامام العصر عليه السلام بالنسبة الينا وغيره من الحوادث المستقبلية.

والظاهر في هذه الآية أن المراد من الغيب هو المغيبات التي يستحيل دركها بالحواس. حيث ذكر بعد ذالك المعارف التي نزلت على الرسل و الآخرة كقسيم للغيب المراد في صدر الآية فتأمل جيداً.

وهذا فضل كبير أن نعرف ونعترف بما وراء عالم الحس فالمنكرون لتلك العوالم تعاموا عن القسم الاكبر من الوجود وحرموا شيئا كثيرا لها آثار كبيرة في سعادة الانسان في الدنيا والآخرة. فالإيمان بالغيب شرط للإيمان والتقوى والنيل بالسعادة الشاملة.

الامر الثاني : إقامة الصَّلاةَ. وإقامة الصلاة تختلف عن قراءة الصلاة بل هي الاهتمام بها وترويجها لإقامة الصلاة دور كبير في وقاية الانسان من الشك والريب في مقام القلب والعقل ووقاية للإنسان من المساوي والمعاصي في مقام العمل، فان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والإنسان المهتمّ بصلاته والمواظب لها لا يمكن أن يكون مصراً على المعصية ولو صدرت منه فسوف يندم.

الأمر الثالث : من شروط التقوى هو الانفاق مِمَّا رَزَقْه الله والانفاق أعمّ من الصدقة والإهداء، فما يبذل الانسان ويصرفه من المال لمعاش اهله وعياله يعتبر الانفاق عليهم بل ما يُنفقه لنفسه من الانفاق. والانفاق يقابل الامساك و البخل. فما هو المطلوب صرف المال فيما يجوز والاقربون اولى بالمعروف. والجمع والادخار أمر مرفوض، كما ان ما رزقنا الله ليس محصورا في المال بل العلم والشرف والقدرة وكل ميزة ينعم الانسان بها في حياته رزق رزقه الله حتى ورد عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى "وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" أي: "ممّا علّمناهم يبثّون"[2] فينبغي للمؤمن أن يستغلها و ينتفع بها لنفسه وأهله وسائر المؤمنين بل لسائر الناس حتى البهائم والطبيعة و لا يبخل بها عن نفسه وغيره.

4- الإيمان بِما أُنْزِلَ إِلَى رسول الله ومَن قبله من الانبياء عليهم السلام، فشرط الايمان والتقوى الاعتراف بجميع الأنبياء وما نزل عليهم من الكتب ولا يكفي الاعتراف بخاتمهم عليه وعليهم السلام، قال تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصيرُ [3] .

5- أخيراً الإيقان بِالْآخِرَةِ من شروط التقوى ولا يكفي مجرد العلم لأن مجرد العلم ليس دافعاً والايقان بيوم الجزاء يحجز صاحبه عن المعاصي و يدفعه الى الطاعة لله و إكثار الخير والصالحات فهو خائف راجي يعرف انه لا يفوته شيء من خيراته ولا يتركه شيء من معاصيه اذا لم يغفر له ربه. فهو يعيش إطار الصلاح والسداد بعيدا عن الخلاف والمعاصي والموبقات.

واليك بعض ما ورد في الذكر الحكيم حول آثار التقوي والاشتمال بهذه الامور الخمسة التي هي من مقوماتها:

قال تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ" (إبراهيم27).[4] و قوله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ" (الحديد- 28).[5] و قوله تعالى: "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ" (محمد 7). وقوله تعالى: "أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها" (الأنعام 123)[6] . وقوله تعالى في من ترك سبيل التقوى واتخذ متابعة الهوى: "وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‌ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ" (ص 26). [7]

وقال سيد المتقين امير المؤمنين عليّ عليه السّلام: "انّ تقوى اللّه مفتاح سداد، و ذخيرة معاد، و عتق من كلّ ملكة، و نجاة من كلّ هلكة"[8] وقال أيضاً: "اعلموا عباد اللّه أنّ التّقوى دار حصن عزيز" ، و قال: ألا و إنّ التّقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، و أعطوا أزمّتها، فأوردتهم الجنّة"(المصدر خ 16).


[8] نهج البلاغة خطبة 230.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo