< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/04/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 44 ) آداب التجارة – كتاب التجارة.

النقطة الثانية:- تستحب التسوية بين المبتاعين فلا يزيد في الثمن أو ينقص لأجل المماكسة إلا إذا فرض ذلك كان لأمور أخرى كالفضل والتقوى وما شاكل ذلك.

إذن النقطة المذكورة تشتمل على حكمين:-

الحكم الأوّل:- تستحب التسوية ، فلا يزاد ولا ينقص لأجل المماكسة والحكم.

الحكم الثاني:- إذا فرض أنَّ التفاوت في السعر لكن لأجل المماكسة بل لأجل أمور أخرى فلا تستحب المساواة - ولم نقل تستحب التفرقة وإنما قلنا لا يستحب التسوية -.

أما بالنسبة إلى الحكم الأول:- فقد يستدل له بوجهين الأول اعتباري والثاني روائي:-

الوجه الأول:- ما تمسّك به صاحب الجواهر وفاقاً لمفتاح الكرامة ، وحاصله: إنَّ المشتري فوض أمر الثمن وأوكله إلى البائع حيث قال المشتري للبائع ( كم سعره ) وهذا نحوٌ من التفويض فبعد أنَّ فوض المشتري الثمن إلى البائع فينبغي للبائع أن يكون أميناً فلابد وأن يخبر بالسعر الواقعي المناسب لا أنه يزيد فيه فإنَّ هذا خلف الأمانة والتفويض إليه.

وهذا كما ترى وجه اعتباري وليس شرعياً والمناسب له أن لا نعبر بـ ( يستحب التسوية ) بل التعبير بـ ( ينبغي أو لا ينبغي ) وما شكلهما التي تشمل الوجه الشرعي والوجه الاعتباري ، قال صاحب مفتاح الكرامة:- ( مضافاً إلى الاعتبار وأنَّ من فوَّض إليه قد جعله وكيلاً له في المساعرة فلا تنبغي الزيادة عليه )[1] ، وهكذا ذكر في الجواهر حيث قال:- ( خصوصاً مع التفويض إليه الذي هو نوع امتنان له[2] )[3] .

كما أنهم اعترفوا أيضاً بأنَّ هذا نوع من الاعتبار ولا يليق أن يكون وجهاً ، ولكننا أردنا الاطلاع على واقع الحال ، فهذا الوجه ليس بمهم وإنما المهم هو الوجه الثاني.

الوجه الثاني:- وهو الذي ركن إليه الفقهاء ، وهو التمسّك برواية عامر بن جذاعة ، وهذه الرواية توجد في ألفاظها صعوبة فلنلاحظها ولنلاحظ هل فيها دلالة على الاستحباب أو فيها دلالة على مبغوضية التفرقة ؟ ، وهي وراية عن عامر بن جذاعة:- ( عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في رجل عنده بيع فسعّره سعراً معلوماً فمن سكت عنه ممن يشتري منه باعه بذلك السعر ومن ماكسه وأبى أن يبتاع منه زاده ، قال:- لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس فأما أن يفعله بمن أبى عليه وكايسه ويمنعه من لم يفعل فلا يعجبني ، إلا أن يبيعه بيعاً واحداً )[4] .

بيان بعض ألفاظ الرواية:- إنه قال ( في رجل عنده بيع ) فلابد أن يكون المقصود كما قال صاحب الجواهر(قده) هو المبيع أو أنه شيء يريد أن يبيعه حيث قال ( أي متاع يبيعه )[5] ، وهو قد أخذ هذا المعنى من السياق فإنَّ المناسب للسياق هو أن يكون عنده بيع ، يعني عنده متاع يريد أن يبيعه ، ( فسعّره سعراً معلوماً ) وهذا تحديد للسعر ، ( فمن سكت عنه ممن يشتري منه باعه بذلك السعر ومن ماكسه وأبى أن يبتاع منه زاده ) فهل أنَّ البائع حينما ماكسه المشتري زاد السعر المشتري فإنَّ المناسب هو هذا ، ومرّة بالعكس وهو أن يكون المقصود أن يزيد البائع المثمن ويبقي السعر نفسه فيصير بالتالي في صالح المشتري ، فالرواية تحتمل الوجهين ، ولكن هذا لا يؤثر على الاستدلال لأننا نريد أن نقول إنَّ المماكسة لا تصير سبباً للزيادة والنقيصة سواء كانت الزيادة والنقيصة في الثمن أو في المثمن ، وأما قوله:- ( قال: لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس ) فمن القريب أن يكون المقصود مهنا هو أنه إذا كانت هذه هي الحالة العامة للبائع لا أنه تفرقة بين المبتاعين فهذه الزيادة في الثمن أو في المثمن كان يصنعها البائع مع الغير في خصوص هذا المشتري ، ( فأما أن يفعله بمن أبى عليه وكايسه ) يعني لخصوصيةٍ في هذا المشتري الذي يُعامِلُ زيادةً ( ويمنعه من لم يفعل ) يعني هذه الزيادة لا يفعلها مع الذي لم يماكس وإنما صنع هذه الزيادة مع من ماكسه بالخصوص ( فلا يعجبني إلا أن يبيعه بيعاً واحدا ) ، وعبارة ( إلا أن يبيعه بيعاً واحداً ) أشبه بالاستثناء المنقطع يعني أنَّ هذا لا يعجبني بل ليجعله بيعاً بشكلٍ واحد مع الجميع ولا يفرّق بين المماكس وغيره ، وبيت القصيد هو في قوله عليه السلام ( فلا يعجبني ) فإنَّ هذا يدل على مرجوحية الزيادة والنقيصة بسبب المماكسة ، وليس من البعيد أنَّ هذا التعبير يدل على مرجوحية التفاوت والزيادة والنقيصة بسبب المماكسة لا أنه يتناسب مع الاستحباب ، والفقهاء عبروا باستحباب التسوية ولكن من المناسب أن نقول كراهة عدم التسوية والتفريق ، فالأنسب لتعبير ( لا يعجبني ) هو هذا.

ونشير إلى قضية جانبية:- وهي أنَّ تعبير ( لا يعجبني ) لعلّه فيه رائحة ثبوت السلطة التشريعية للأئمة عليهم السلام وإلا فلا معنى لأن يعبّر بهذا التعبير ، ونحن أردنا أن تلفت النظر إلى هذه القضية فإنه يوجد في رواياتٍ أخرى نظير ومشابه لهذا التعبير ولعلّ بعض التعابير أوضح من هذا التعبير في أنهم عليهم السلام لهم السلطة التشريعية.

فهذه الرواية تدل على مرجوحية التفرقة بين المماكس وغيره ، فالأنسب أن نقول هي تدل على مرجوحية التفرقة لا استحباب التسوية.

وأما بالنسبة إلى الحكم الثاني:- فهو لا تدل عليه هذه الرواية ، فمن أين جاء به الفقهاء ؟

والجواب:- إنَّ هذه الرواية دلت على مرجوحية تفضيل بعضٍ على بعض بالمماكسة فنفهم أنه هناك مرجوحية للتفرقة في الثمن ، أما الشق الثاني - وهو إذا كانت التفرقة لا لأجل المماكسة - فليس بمذكور فيها ، ولكن هذا الحكم يبقى على طبق القاعدة وهي تقتضي الجواز لكن من دون أن نقول بالاستحباب ، فلا نقول باستحباب التفرقة بالفضل وغيره ، بل أقصى ما نقوله هو أنه إذا كان بسب المماكسة فالتفضيل يكون مرجوحاً - أو كما عبّر الفقهاء يستحب التسوية - أما إذا فرض أنَّ التمييز لم يكن لأجل المماكسة فهذا نتمسّك بجوازه على طبق القاعدة إذ لا دليل على رجحان التساوي وعدم التفرقة ، فحينئذٍ الكراهة - أو الاستحباب حسب التعبير المناسب - سوف يرتفع ولكن لا يتحوّل إلى استحباب التفريق بتفضيل المتّقي أو العالم مثلاً على غيره في السعر ، كلا وإنما إذا أراد أن يحسب له بالسعر المخفَّض فلا مرجوحية ولا كراهة - أو لا استحباب للتسوية - فإنَّ أقصى ما هناك هو هذا المقدار ، وقد بيّنا المستند بهذا الشكل ، وهذا تخريج ظريف.

هذا كله بالنسبة إلى الحكمين من حيث الرواية والدلالة.

بقي شيء:- وهو أنه إذا أراد أن يفضّل المتقي أو العالم الفقيه على غيره فهل أنه لا توجد حزازة من ناحية العالم وإنما هو يقبل رأساً أو أنه يكره له قبول ذلك ؟

المناسب نحن وهذه الرواية أنه لا توجد كراهة في القبول بتخفيض السعر فإنه لا تستفاد الكراهة منها.

بيد أنَّ مفتاح الكرامة والجواهر ذكرا بأنه:- ( لو كان سبب التفاوت الايمان أو التقوى أو العلم أو الفقر أو نحو ذلك مما يحسّنه العقل فلا استحباب في التسوية ، لكن يكره للآخذ قبول ذلك ويحكى عن السلف أنهم كانوا يوكّلون في الشراء من لا يُعرَف هرباً من ذلك )[6] .

وقد اتضح أنَّ أقصى ما نستفيده من الرواية أنَّ التفريق بالفضل ونحوه لا محذور فيه أما أنه يكره له الأخذ فهذه قضية لم يذكر مدركها ، وهذه ملاحظة تسجّل على صاحب مفتاح الكرامة(قده) ، اللهم إلا أن يتمسّك بمسألة عمل السلف الصالح ، ولكن لعلّ عمل السلف الصالح هو لقضيةٍ أخرى كأني مثلاً لا أحبّ أن يخفّضون السعر لأجلي لأنهم بعد ذلك سوف لا يحبّون مجيئي إليهم لأجل أنهم سوف يخفّضون السعر ، ولكن هذه قضية شخصية نفسية لا كحكمٍ شرعي ، فإذن هو ذكر حكم الكراهة هذا من دون أن يذكر المستند.

وقال أيضاً:- ( وفي السرائر إذا كانوا عالمين بالأسعار وبما يباع فلا بأس بمن يبيعَ كلَّ واحدٍ بغي السعر الذي باعه للآخر مع علمه )[7] ، يعني مقصوده أنَّ الكل إذا كانوا بأجمعهم يعرفون السعر فجعل التفاوت بينهم لا بأس به.

وهذه نقطة تسجل على ابن إدريس أيضاً ، لأنه من أين لك هذا ؟ لأننا إذا رجعنا إلى الرواية لم نجد فيها هذا المطلب - وهو أنه لا يعجبني إذا لم يكونوا يعرفوا الأسعار وأما إذا كانوا يعرفون الأسعار فيعجبني - وإنما الرواية مطلقة من هذه الناحية.

إذن الحكم بمرجوحية التفاوت لا مستند له إلا رواية عامر بن جذاعة ولكنها ضعيفة سنداً ، فالاستناد إليها لابد وأن يكون من باب التسامح في أدلة المكروهات والمستحبّات ولو بنحو التسامح العملي لا التسامح النظري ، فإننا في علم الأصول قد لا نبني على قاعدة التسامح لعدم ثبوت المدرك من حيث الدلالة ولكنه عملاً جرت سيرة الأصحاب على ذلك ، ولذلك لو قالوا لك إنه ورد في بعض الروايات المرسلة أنه يستحب أن تصنع كذا في أوّل الشهر فإنك تصنع ذلك وهذا في الحقيقة تسامح في مقام العمل وهو شيء جيد ولا محذور ، فهذه الرواية لابد أن يكون الأخذ بها مبنياً على التسامح من حيث العمل في أدلة المكروهات والمستحبات ، وسندها هو:- ( محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن بعض أصحابنا عن أبان عن عامر بن جذاعة ) ، ويكفينا تعبير ( عن بعض أصحابنا ) ، فإذن هي مرسلة.

 


[1] مفتاح الكرامة، السيد محمد جواد العاملي، ج12، ص436.
[2] ونذكر فائدة جانبية:- وهي أنَّ صاحب الجواهر(قده) حينما كتب الجواهر يظهر أنه كانت عنده كتب ينظر إليها دائماً أحدها مفتاح الكرامة، فلذلك تلاحظ أنَّ بعض عباراته عين عبارات مفتاح الكرامة.
[3] جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج22، ص451.
[4] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص398ن ابواب آداب التجارة، ب11، ح1، وقد عنون صاحب الوسائل الباب بـ ( باب استحباب التسوية بين المبتاعين وكراهة التفرقة بين المماكس وغيره )، ط آل البيت.
[5] الحدائق الناضر’، البحراني، ج18، ص24.
[6] مفتاح الكرامة، السيد محمد جواد العاملي، ج12، ص436.
[7] مفتاح الكرامة، السيد محمد جواد العاملي، ج12، ص436.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo