< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الأصول

39/04/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مبحث التجرّي - مبحث القطع والأمارات والأصول العملية.

وتوجد زيادة توضيح:- فإنَّ السيد الخوئي(قده) قال إذا كان المولى نتيجة قبح التجرّي يريد أن يثبت الحرمة ، فهو إما ان يثبت الحرمة لعنوان التجري فهو باطل لأمرين لأجل أنَّ المتجرّي لا يلتفت ولأجل أنه لا خصوصية للمتجرّي ، وهذا قد ذكرناه وأجبنا عنه ولا يوجد عندنا استدراك واضافة عليه.

وأما الشق الثاني فقال:- إذا كان النهي يتوجّه إلى الأعم من المتجرّي والعاصي فهنا يلزم التسلسل ، لأنَّ القبح الأوّل[1] يستلزم حرمة الفعل المتجرّى به ، وهذه الحرمة مخالفتها قبيحة أيضاً فيلزم حرمة ثانية ... وهكذا ، ونحن في مقام الجواب ذكرنا وقلنا:- لعلهم يفرّقون فيقولون بالملازمة في ذلك القبح ، أو بعبارة أخرى:- إنه متى ما كان هناك مانع من تطبيق الملازمة فلا يقولون بالملازمة وإلا فيقولون بها.

والعبارة التي نريد أن نضيفها هي أنه وإن شئت قلت:- هنا يوجد قبح أوّل يستكشف منه الحكم الشرعي ويكون بمثابة العلة للحكم الشرعي وهو القبح الأوّل ، فإنَّ قبح التجرّي علّة لثبوت الحرمة للفعل المتجرّى به ، فهذا قبح بمثابة العلّة للحكم الشرعي ، بينما القبح الثاني الذي يتولّد بعد ذلك فهو قبح على مخالفة الحكم الشرعي ، يعني هو معلولٌ للحكم الشرعي ولمخالفة الحكم الشرعي ، وكل أفراد القبح التي تأتي بعد ذلك كلّها وليدة مخالفة الحكم الشرعي ، بينما الحكم الأوّل فهو ليس وليد مخالفة الحكم الشرعي بل هو منشأ وعلّة للحكم الشرعي ، فلعل القائل بالملازمة يفرّق بين هذين النحوين من القبح فيقول بالملازمة في القبح الواقع علة للحكم الشرعي فذاك يلازم الحكم الشرعي بينما القبح الثاني والثالث والرابع ... الذي يكون معلولاً لمخالفة الحكم الشرعي فذاك لا يقول فيه بالملازمة من باب أنه يلزم من ذلك التسلسل[2] ، فإذن هو يقيد ويقول أنا أقول بالملازمة إلا إذا لم يكن هناك مانع وهو التسلسل ، وإنما لا يلزم التسلسل فيما إذا كان القبح بالنحو الأوّل ، يعني واقعاً بمثابة العلّة ، فهو يقول القبح الذي يكون علة للحكم الشرعي أنا أقول هو يلازم ثبوت الحكم الشرعي أما ما يكون معلولاً للحكم الشرعي فلا أقول بالملازمة لوجود المانع وهو لزوم محذور التسلسل.

عودٌ إلى صلب الموضوع:- ذكرنا فميا سبق أنَّ حرمة الفعل المتجرّى به مرّة نستفيدها من الأدلة الأوّلية بأن يتوجّه الدليل الأوّلي إلى مقطوع الخمرية الأعم من الموافق والمخالف للواقع ، أو نستفيده من قاعدة الملازمة ، أو نستفيده من النصوص ، وقد انتهينا من بحث استكشاف حرمة الفعل المتجرّى به من خلال الأدلة الأوّلية ومن خلال قاعدة الملازمة وقد اتضح أنَّ الملازمة ليست ثابتة فلا يمكن استكشاف الحرمة من قبح الفعل المتجرّى به لأننا لا نقول بالملازمة ، والآن نريد أن نستكشف الحرمة من خلال النصوص.

استكشاف حرمة الفعل المتجرّى به من خلال النصوص[3] :-

هناك بعض الآيات والروايات قد يفهم منها حرمة قصد الانسان وإرادته التي هي ثابتة في المتجرّي ، لأنَّ المتجرّي قصد وأراد ارتكاب الحرام ولكن لم يوفّق لمخالفة قطعه للواقع ، فهذه الآيات والروايات تدل على الحرمة ، ونذكر ثلاث آيات وثلاث روايات:-

أما الآيات:-

الأولى:- قوله تعالى ﴿ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كلّ شيء قدير ﴾[4] ، وتقريب الاستشهاد فيها واضح حيث قالت ﴿ إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه ﴾ فما يخفى في النفس وهو قصد ارتكاب الحرام يحاسبكم به الله ، فإذن هو يحاسب على النوايا والقصد والارادة.

الثانية:- قال تعالى ﴿ إنَّ الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾[5] ، ووجه الشاهد هو قوله تعالى ﴿ إنَّ الذين يحبون ﴾ يعني أنَّ الحبّ عليه عذاب أليم لا مجرّد اشاعة الفاحشة فإنَّ إشاعة الفاحشة يثبت له العذاب وهذا واضح أما حبّ الاشاعة القلبي بقطع النظر عن الاشاعة الخارجية هو الذي عليه العذاب الأليم ، وهذا يدل على أنَّ هذا الأمر النفسي يستلزم العذاب ، فيدلّ ذلك على أنَّ الأمور والقصود والارادات النفسية يسجّل عليها عذاب[6] .

الثالثة:- الآية الثالثة ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فسادا ﴾[7] ، وموضع الشاهد هو أنَّ الدار الآخرة هي الجنة وهي للذين لا يريدون علواً في الأرض ، فنفس الارادة التي هي أمر نفسي يثبت لها العذاب ، فهذا يدل على أنَّ الأمور النفسية يثبت لها العذاب ، ومنه مقامنا وهو قصد ارتكاب الحرام.

وأما الروايات فهي:-

الأولى:- في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إنما خلّد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ، وإنما خلّد أهل الجنة في الجنّة لأنَّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلى قوله تعالى " قل كلّ يعمل على شاكلته " قال:- على نيته )[8] ، إنها دلت على أنَّ الانسان يجازى على نيّته فقد يخلّد في النار بسب نيته وقد يخلّد في الجنة بسبب نيّته.

الثانية:- في حديث زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة القاتل والمقتول في النار ، فقبيل:- يا رسول الله القاتل فما بال المقتول ؟ قال:- لأنه أراد قتلاً )[9] ، فيدل ذلك على أنَّ الارادة تصير سبباً لدخول النار.

الثالثة:- عن امير المؤمنين عليه السلام:- ( الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم وعلى كلّ داخلٍ في باطل اثمان إثم العمل به وإثم الرضا به )[10] ، والدلالة واضحة حيث دلت على أنَّ نفس الرضا الذي هو أمر قلبي يستوجب الإثم.

إذن مجموع هذه الآيات والروايات يدل على أنَّ الأمور النفسية من القصد والارادة والرضا كلّها يثبت عليها المجازاة فإرادة الخير يثبت عليها الثواب وإرادة الشر يثبت عليها العقاب ، والمتجرّي أراد الشر - فهو قد أراد ارتكاب الحرام - فيدل ذلك على أنه معاقب.

وفي مقابل هذه النصوص توجد نصوص أخرى معارضة:- وهي مثل ما وري عن أحدهما عليما السلام:- ( إنَّ الله تعالى قال لآدم عليه السلام:- يا آدم جعلت لك أنَّ من همّ من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشراً )[11] ، وقدر وردت روايات أخرى بهذا المضمون ولكننا أكتفينا بهذا المقدار.

إذن عرفنا أنه توجد طائفتان من النصوص الأولى تدل على أنَّ النيّة والارادة والقصد يثبت لها القعاب والثانية تدل على العفو عنه ، فكيف نوفّق بين هاتين الطائفتين ؟

ذكر الشيخ الأعظم(قده)[12] وجهين للجمع:-

الأوّل:- أن نحمل الروايات الدالة على العقوبة على من نوى وزاول بعض المقدّمات ، يعني كما لو مدّ يده وشرب فهذه مزاولة لبعض المقدّمات فهنا توجد نيّة زائداً ارتكاب بعض المقدّمات سواء كان ذلك في باب التجرّي أو في غير باب التجرّي ، كما لو أراد أن يقتل شخصاً فنوى قتله وأخذ السكّين وذهب إليه يركض وقبضه من تلابيبه لكنه لم يقتله فهذه مزاولة لبعض المقدّمات ، فنحمل ما دل على العقوبة على هذه الحالة ، ونحمل الروايات الدالة على العفو وعدم العقوبة على من نوى ولم يزاول شيئاً من المقدّمات.

الثاني:- إن نحمل الطائفة التي دلت على العقوبة على من نوى ولم يرتدع من قبل نفسه وإنما ارتدع لعاملٍ آخر ، كما لو فرض أنه ذهب إليه ليقتله لكن الناس منعوه من ذلك فهذا لم يرتدع من نفسه فيوجد عقاب على نيّته ، بينما الطائفة التي دلت على العفو نحملها على من ارتدع من قبل نفسه ، يعني أنه ذهب ليقتله لكنه ارتدع من نفسه فترك قتله.

وجمع السيد الشهيد(قده)[13] هكذا فقال:- إنَّ النصوص الأولى نحملها على بيان الاستحقاق وأنه يستحق أن يخلّد في النار ، وأما الطائفة الثانية فهي تنفي الفعلية وهي أنه لا يوجد عقاب بالفعل ، فيرتفع التعارض ، فواحدة تنفي الفعلية والثانية تثبت الاستحقاق ولا منافاة بين أن يكون مستحقاً كما دلت عليه الطائفة الأولى وبين أن يكون العذاب منفياً عنه بالفعل كما دلت عليه الطائفة الثانية.


[1] مثل قبح التجري.
[2] أي لوجود المانع.
[3] وهذا عدل لاستكشاف الحرمة من خلال الملازمة ومن خلال الأدلة الأولية.
[6] وهل هذا تام او فنحن لا نريد المناقشة فيه إذ لعل شخص يقول غنه توجد خصوصية للفاحشة فإن نفس إرادة وحب اشاعة الفاحشة له خصوصية ولكن هذه قضية ثانية.
[10] الكلمات القصار لأمير المؤمنين عليه السلام، رقم الحكمة154.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo