< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الاصول

32/11/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: تنجيز العلم الإجمالي

 تقدم أنّه قد يرخص في بعض أطراف العلم الإجمالي ترخيصاً ظاهرياً أو واقعياً.

 أما الترخيص الواقعي فقد ذكرنا موردين ثالثهما:

 3ـ قال صاحب الكفاية ما حاصله: إذا اضطر المكلف إلى ارتكاب أحد الإناءين النجسين (غير المعيّن) فالاضطرار يوجب جواز ارتكاب أحد الأطراف النجسة. أو يوجب ترك أحد الأطراف الواجبة إذا علمنا علما إجمالياً بوجوب أحد الأطراف واضطر إلى ترك أحدها. والسرُّ في هذا هو أن الاضطرار إلى التكليف لا يجعل الذمة مشتغلة به من الأول إلا مقيداً بعدم عروض الاضطرار، أما مع حصول الاضطرار فلا يقين باشتغال الذمة به فيكون من باب الشبهة البدوية ([1] ).

واما الترخيص الظاهري:

 فينحصر موجبُه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل نافي للتكليف غير معارض بمثله وذلك إنّما يكون بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض الأطراف المعينة من علم أو إمارة أو أصل شرعي أو عقلي، ولكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض من غير فرق بين أن يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلاً قبل العلم الإجمالي أو بعده، غايته أنه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الإجمالي، وفي الثاني يوجب انحلاله ([2] ).

 ومثاله: إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين ثم قامت البينة على نجاسة أحدهما المعيّن، واحتمل ان سبب نجاسة الإناء المعين بالبينة غير النجاسة التي علم بها سابقاً إجمالاً، فهنا يجب الاجتناب عن الإناء الذي قامت البينة على نجاسته على كل تقدير، وحينئذٍ يبقى الإناء الآخر جارياً فيه الأصل الثاني بلا معارض فلا موجب للاجتناب عنه.

أقول: قد يقال ان بعض هذه الأمثلة ليس ترخيصاً في بعض أطراف العلم الإجمالي لان الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي يعني الاكتفاء عن الواقع بترك الآخر مع بقاء العلم الإجمالي بحاله، أما بعض هذه الأمثلة فهو عبارة عن انحلال العلم الإجمالي ومع انحلاله لا تنجيز أصلاً. فلاحظ.

زيادة توضيح:

 قلنا فيما تقدم: ان رأي السيد الخميني (القائل بالتفصيل بان العلم الإجمالي علّة للتنجيز في حرمة المخالفة القطعية لأن الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي هو معصية والشارع لا يرخص فيها، أو نقول ان الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي هو تفويت للغرض الإلزامي و مناقض معه فلا تكون الأصول العملية شاملة لهذا المورد.

 أما بالنسبة للموافقة القطعية، فقال الإمام الخميني: «ان العلم الإجمالي مقتضي للتنجيز فيتمكن الشارع أن يرخص في بعض أطراف العلم الإجمالي» هو الأقوى.

 وقد ذكرنا هناك بان الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي إثباتاً هو دليل على إمكان ذلك ثبوتاً ثم ذكرنا موارد للترخيص في أطراف العلم الإجمالي وهي أربعة:

 1ـ إذا كان العلم الإجمالي في شبهه غير محصورة، فتكون كثرة الأطراف موجبة لعسر الموافقة القطعية باجتناب جميع الأطراف أو ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، فلا يكون التكليف فعليا بعثاً أو زجراً، إذن لا يجب الاجتناب عن إطراف الشبهة غير المحصورة.

 2ـ إذا لم تكن كل الأطراف في الشبهة المحصورة محلاً لابتلاء المكلف، فهنا يشك في نجاسة إنائه المبتلي به فتجري أصالة الطهارة.

 أقول في هذين المثالين لا يكون العلم الإجمالي موجباً لنهي الشارع أو أمره عن الاجتناب في جميع الأطراف أو الامتثال لجميع الأطراف. فخرج عن محل كلامنا في كون العلم الإجمالي موجباً لوصول الأمر من الشارع والنهي عن جميع الأطراف. فلا يكون مثاله للترخيص في الأطراف مع وجود العِلم الإجمالي الموجب للأمر أو النهي عن الأطراف.

 3ـ قال صاحب الكفاية: إذا اضطر المكلف إلى ارتكاب أحد الأطراف النجسة (من دون تعيين للطرف المضطر إليه) فالاضطرار يوجب جواز ارتكاب أحد الأطراف النجسة، أو يوجب ترك أحد الأطراف الواجبة والسرُّ فيه هو أن الاضطرار إلى الفعل (طرف العلم الإجمالي) لا يجعل الذمة مشتغلة به من الأول إلا مقيداً بعدم الاضطرار إليه. أما مع حصول الاضطرار فلا يقين باشتغال الذمة به فيكون من باب الشبهة البدوية.

أقول: هذا المثال للترخيص خارج عن كون العلم الإجمالي يوجب بعثا أو زجرا لجميع الأطراف، بل المضطر اليه لا يُنهى عنه ولا يؤمر به من الأول، فليس هو مثال للترخيص مع وجود العلم الإجمالي بالنهي أو الأمر في جميع الأطراف.

 4ـ إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ثم جاءت بيّنه بنجاسة الإناء الذي على يميننا واحتملنا ان سبب نجاسته (الذي على اليمين وقامت عليه البينة) هو غير النجاسة التي علمنا بها سابقاً إجمالاً، فهنا يجب الاجتناب عن الإناء الذي قامت البينة على نجاسته على كل تقدير، فيبقى الإناء الآخر جارياً فيه الأصل النافي بلا معارض.

أقول: هذا المثال: يقول بانحلال العلم الإجمالي ونحن كلامنا في إمكان الترخيص مع وجود العلم الإجمالي فلا يكون داخلاً في كلامنا.

 يبقى مثالٌ واحد يمكن أن يكون دليلاً للسيد الخميني في إمكان المولى أن يرخص في أطراف العلم الإجمالي مع وجود العلم الإجمالي على حاله من الأمر أو النهي عن جميع الأطراف وهو مثال الشاة التي نزا عليها صاحبها وهي معتبرة محمد بن عيسى عن الرجل () أنه سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة؟ قال(): «ان عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها» ([3] ). وعن أبي الحسن الثالث الجواد() في جواب مسائل يحيي بن أكثم في كتاب تحف العقول قال: «أما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فان عرفها ذبحها وأحرقها وان لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم»([4] ).

 وهذه الرواية: تفيدنا في تأييد تفصيل السيد الخميني فانها مع وجود العلم الإجمالي الذي يوجب نهياً عن أكل لحم كل موارد العلم الإجمالي للشاة الموطوئة فقد جوّز الشارع أكل بعض موارد العلم الإجمالي مع أن العلم الإجمالي أوجب نهياً عن الجميع، فالموافقة القطعية باجتناب جميع موارد العلم الإجمالي تكون واجبة إذا لم يأتِ ترخيص في بعض مواردها فإذا جاء ترخيص في الأكل في بعض موارد العلم الإجمالي في مرحلة الإثبات دل هذا على جواز الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي ثبوتاً. فيصح تفصيل السيد الخميني ويكون قويّاً. وأما مع عدم ورود الترخيص فيكون الموافقة القطعية واجبة للعلم الإجمالي الذي يوجب نهياً إذا كان العلم الإجمالي في شبهة تحريمية ويوجب أمراً إذا كان العلم الإجمالي في شبهة وجوبية, ولكن الترخيص ممكن عقلاً وفي بعض الأفراد.

 والخلاصة: لم يرد ترخيص إثباتي في بعض أطراف العلم الإجمالي إلا هذا، فهو يدلّ على إمكان الترخيص من قبل الشارع في بعض أطراف العلم الإجمالي، وفي غيره يكون العمل على كون العلم الإجمالي علّة للتنجيز إثباتاً، إلا أن نقول ان مثل الشاة والقرعة في تعيين الموطوء يكون كما لو قامت بينة على كون الموطوءة هي التي قامت عليها البيّنة فينحل العلم الإجمالي وتكون بقية الشياة مشكوكة الحرمة فتجري فيها البراءة. فإذا قلنا بهذه المقالة لم يسقط هذا القول الثالث عن الصحة ليصبح القول الصحيح هو القائل بان العلم الإجمالي علّة للتنجيز في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فلا يجوز إجراء البراءة في جميع الأطراف ولا في بعض الأطراف كما تقدم دليله سابقاً إذ قلنا: إنّ الترخيص في بعض الأطراف ممكن فلا تجب الموافقة القطعية لأنّ الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي ليس بمعصية بخلاف الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي فإنّه معصية فلا يجوز، ولهذا سيبقى القول الثالث هو أقوى الأقوال لقوة دليله من الناحية الثبوتية والإثباتية إذ أثبت أنّ دليل الشاة الموطوءة هو ترخيص في بعض أطراف الشبهة المحصورة وإلّا فهو قول صحيح ثبوتاً فقط.

[1] () راجع كفاية الأصول، تنبيهات دوران الأمر بين الأمرين، 360 361 طبعة مؤسسة آل البيت().

[2] () فوائد الأصول، للنائيني ج 4 : 36 -37.

[3] () وسائل الشيعة باب 30 من الأطعمة والأشربة، ح1.

[4] () وسائل الشيعة باب 30 من الأطعمة والاشربة ح4.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo