< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/01/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع:

قاعدة: حجية الدليل العقلي
 تقدم النقض الرابع للإخباريين من وجود نهي عن الشارع في إتباع الدليل العقلي القطعي... وقد تقدم الجواب الأوّل.
 أقول: لعلّ الأصوب أنّ هذه الروايات ناهية عن العمل بالقياس الذي قال به أبو حنيفة في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي وقف منه الإمام الصادق موقف الرادع عنه، وهو عبارة عن إخضاع الأحكام الشرعية الثابتة بالسنة النبوية إلى حكم العقل فما قبله العقل منها قبله وما ردّه العقل منه ردّه ولذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذا القياس: «إنّ السنة إذا قيست محق الدين» بمعنى زوال أكثر أحكام الدين الثابتة بالسنة النبوية، وعلى هذا لا تكون هذه الروايات ناهية عن العمل بأحكام العقل النظري والعملي القطعي، وكمثال على ذلك ما عمله أبان مع الإمام الصادق (ع) حيث قال أبان للإمام: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع امرأة, كم فيه؟ قال: «عشرة من الإبل», قلت: قطع اثنين؟ قال: «عشرون»، قلت: قطع ثلاثة؟ قال: «ثلاثون»، قلت: قطع، أربعة؟ قال: «عشرون».
 قال أبان: قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قال، ونقول: إنّ الذي قاله الشيطان.
 فقال الإمام الصادق (عليه السلام): «مهلاً يا أبان هذا حكم رسول الله, إنّ المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة الى النصف, يا أبان إنّك أخذتني بالقياس, والسنة إذا قيست محق الدين» [1] .
 وهذه القصة تشير إلى القياس الذي أخذ به أبو حنيفة وهو أخطر ما يكون على الدين لأنّ فيه محقاً للدين وللسنة الشريفة، فكان ما ثبت من السنة أخضعه إلى عقله فما قبله عقله قبله وما ردّه ردّه، ومعنى هذا دعوى أبي حنيفة معرفة ملاكات الأحكام الشرعية بعقله من دون مراجعة الشارع فيها وهو الذي لا يصاب بالعقول، فإنّ ملاكات الأحكام الشرعية لا تنالها عقول البشر، وهذا لا ربط له بردّ القطع الحاصل من الدليل القطعي على الحكم الشرعي في قبال القرآن والسنة بعد حصول الجزم منه على الحكم الشرعي.
 2ـ لو سلّمنا ان إطلاق الرأي في الروايات على القطع الحاصل من الدليل العقلي فيعارضه النصوص الآمرة باتباع العلم والقضاء به، وبراءة ذمة العامل به من دون تقييد العلم الحاصل من دليل شرعي، فيتعارضان ويتساقطان لأن النسبة عموم من وجه [2] وحينئذٍ لا دليل على النهي المذكور.
 ملحوظة:
 قد يقال (كتوجيه لما ذكره بعض الإخباريين من المنع عن العمل بالقطع الغير الحاصل من الكتاب والسنة) : إنّ قد يقصدون إنّ العقل الذي يُدرك الحسن بمعنى أنّ العقلاء يحسّنون مدح فاعل الخير ويقبّحون ذمّه وعقابه، وأنّ العقل الذي يدرك القبح بمعنى أنّ العقلاء يحسّنون عقاب فاعل الشرّ ويقبّحون مدحه، إلّا أنّ هذا كلّه لا يكون مدركاً لحكم شرعي، لأنّ العقل لا يدرك مصالح الأحكام الواقعية لقصوره عن إدراكها، فهو لا يعلم بتحقّقها، وإذا علم بتحقّقها فهو لا يعلم بعدم المانع منها.
 وهذا أمر صحيح، فإنّ العقل البشري قاصر عن إدراك علّة الأحكام الشرعية، لأنّ إدراكه محدود، فلا قدرة له على إدراك الحكم الشرعي، ولا يدرك عدم اقترانها بالمانع.
 فإن قلت: تقدّم أنّ الحكم العقلي النظري قد يكون من باب العلية والمعلولية، فيُدرَك علّة الحكم وملاك الحكم التام، فيُستكشف لمّيّاً ثبوت الحكم الشرعي في موارد إدراك العقل للملاك، وضربنا مثلاً لذلك وهو قياس الأولوية.
 قلت: إنّ الشارع المقدس قد يشير ويذكر علّة حكمه كما في قياس الأولوية، فتؤخذ العلة من الشارع، فيقال: إنّ قوله تعالى: {

فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}

أي لا تقل للأبوين كلمة اف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً يرضيهما فيفهم من هذه الآية الكريمة إنّ الحزازة والأذية لهما هي علة التحريم بالتأفف والنهر، وهي موجودة بالضرب والشتم للأبوين بصورة أقوى، فيحرم الضرب والشتم أيضاً، وكذا قوله (عليه السلام): «إنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها وإنّما حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو حرام» فإنّه يفهم منه أنّ علّة الحرمة للخمر هي عاقبتها التي هي إزالة العقل والمسّ، وأيضاً حين سأل الإمام الصادق (ع) فقيل له: لِمَ حرّم الله الخمر؟ فقال: «حرّمها لفعل وفسادها» [3] .
 وهذه العلة التي أشار إليها النصّ موجدة في كلّ مسكر وفي المورفين وبقية المخدرات، فتحرم المخدرات بأجمعها إذا أزالت العقل سواء كان إزالة العقل بنشوة أم بدونها.
 وقد لا يشير الشارع المقدّس إلى علّة الحكم، ففي هذه الصورة يكون العقل عاجزاً عن إدراك علّة الحكم التامة لقصوره عن ذلك حيث محدوداً، فهو لا يدرك مصالح الحكم الشرعي، وإذا أدرك مصالح الحكم الشرعي فرضاً فهو لا يُدرك عدم اقترانها بالمانع، وهذا لا يفرّق فيه بين أدراك الحسن والقبح من قبل العقل وعدم إدراكها فإنّ المكلّف إذا أدرك حكماً شرعياً دلّ عليه الدليل فهو لا يمكنه معرفة ملاكه وعلته التامة بواسطة عقله.
 نعم قد يُدرِك حكمة هذا الحكم، وقد يدرك علّته بنحو الظنّ، وهذا هو الذي صدرت الروايات بالردع عنه حيث قالت: «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول»، فلاحظ.
 وهذا كلّه غير محلّ النزاع: وهو ما إذا أدرك العقل النظري الاستلازامات الواقعية بين الأحكام وهو باب الوجوب والإمكان والاستحالة كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، وكإمكان الحطاب الترتّبي، وكاستحالة اجتماع الأمر والنهي، فهذه لوحدها تنفي الحكم الشرعي كنفي كلا الحكمين المتضادين حيث يكفي في انتفاء شيء ثبوت استحالته، ولكنّها لا تكفي لوحدّها لإثبات الحكم، بل لابدّ من ضمّ ضميمة إليها كالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، أو حكم العقل بوجوب حكم الله لما حكم به العقلاء.
 وكذا إذا أدرك العقل علّة الحكم الشرعي وملاكه التام فيُستكشف ثبوت الحكم الشرعي في مورد إدراك العقل لذلك الملاك كما في قياس الأولوية، فالعلّة تؤخذ من الشرع ويثبت الحكم في غير مورد التأفّف.
 وكذا بالنسبة إلى الحكم العقلي العملي، كحكم العقل بقبح الظلم أو قبح ضرب اليتيم تشفّياً فهذا الحكم العقلي لا يثبت به حكم شرعي إلّا بضميمة حكم عقلي نظري، وهو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وكذا حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو قبح ترخيص المولى في المعصية، فإنّ هذا بحاجة إلى ضمّ حكم آخر نظري يقول باستحالة صدور القبيح من المولى، وحينئذ نستنتج حكماً شرعياً.


[1] وسائل الشيعة : باب 44 من ديات الأعضاء ح1.
[2] وبيان التعارض بنحو العموم من وجه هو أنّ النهي عن التوجّه إلى الاستدلالات العقلية يشمل الاستدلالات العقلية الظنّية والاستدلالات العقلية القطعية، والنصوص الآمرة باتّباع العلم والقطع تشمل العلم القطعي العقلي والعلم القطعي الشرعي فيتعارضان في العلم القطعي العقلي فالنهي عن الاستدلال به يجعله غير حجة مثلاً، والامر باتباعه يجعله حجة فيتعارضان ويتساقطان، وحينئذ لا يبقى دليل على النهي عن الأدلة العقلية القطعية.
[3] الوسائل باب 19من كتاب الأطعمة والأشربة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo