< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/11/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

وصل الكلام إلى الوجوه التي طُرِحت لإثبات انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي انحلالاً حقيقياً.
الوجه الأول: قياس المقام بموارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين. وبيان ذلك:
أنه إذا دار الامر بين وجوب صوم يوم أو صوم يومين، فلا ريب في انحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي في وجوب صوم يوم واحد، وشك بدوي في الاكثر، والوجه في انحلال هذا العلم الاجمالي:
أنه أنّ معلومه يدور من حيث الكم بين الأقل والأكثر، فلأنّ معلومه دائرٌ من حيث المقدار ومن حيث الكم بين الأقل والأكثر اقتضى ذلك انحلاله الى علم تفصيلي وشك بدوي. وهذه النكتة موجودة في محل الكلام. فإذا علِمَ المكلّف بنجاسة أحد الإناءين بالدم، ثمّ علِمَ تفصيلاً بنجاسة الإناء الأبيض بالدم، فهنا بعد حدوث العلم التفصيلي بنجاسة الإناء الأبيض بالدم لا محالة يتحول المعلوم بالإجمال السابق الى تردد بين الأقل والأكثر، فبعد أن كان المعلوم بالإجمال مردداً بين الإناء الأبيض والإناء الأزرق أصبح بعد العلم التفصيلي بنجاسة الإناء الأبيض مرددّاً بين الأقل والأكثر، اي بين نجاسة خصوص الإناء الأبيض أو أزيد منه. وبما أن الدوران بين الأقل والأكثر يقتضي الانحلال بعلمٍ تفصيليٍ بالأقل وشكٍّ بدوي في الاكثر فلازم ذلك فالانحلال في المقام. إذاً: وجه قياس المقام بصورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين: أن نكتة الانحلال هناك هي الدوران وهذه النكتة موجودة في المقام بعد العلم التفصيلي.
نعم، الانحلال هناك ذاتي، وفي المقام عرضي. بمعنى: أنّ العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، كما إذا دار بين صوم يوم أو صوم يومين، هو يقتضي انحلال نفسه بذاته لا بعلم آخر، اي نفس هذا العلم هو يستبطن علماً تفصيلياً بالأقل وشكاً بالأكثر. فانحلاله ذاتي لا بواسطة انضمام علم آخر. بينما: الإنحلال في المقام عرضي لا ذاتي. اي لولا ضميمة علم تفصيلي لما حصل الانحلال، إذ لو بقينا على العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لما حصل انحلال، ولكن حيث ورد علم تفصيلي بنجاسة الإناء الأبيض تحول ذاك العلم الإجمالي السابق الى دوران بين الأقل والأكثر. وهذه نكتة الإنحلال.
ولكن السيد الشهيد «قده» أورد: بأن هناك فرقاً بين البابين، فكيف يقاس احدهما على الآخر، وذلك: لأنه في العلم الدائر بين الأقل والأكثر لا يوجد إلا علم واحد، إذ أن نفس هذا العلم هو ينتهي الى علم تفصيلي بالأقل وشك في الأكثر، أما في مقامنا فيوجد علمان:
علم إجمالي، وعلم تفصيلي. كما أنه في باب الأقل والأكثر ليس لدينا في الواقع علمٌ إجمالي حقيقي، بل هو علمٌ إجماليٌ صوري؛ أي: أننا من البداية لمّا علمنا بوجوب صوم يوم أو يومين فهذه صورة العلم الإجمالي، وإلا ففي الحقيقة هو علم تفصيلي بصوم يوم وشكٍّ في الأكثر. ولذلك لا يحتمل الانبطاق على كليهما، بل يعلم بانطباقه على صوم يوم. إلا أنّ ما ذكره السيد الشهيد «قده» يسلّم به المستدل، فهو يعترف ان هناك فرقا بين البابين، اي بين العلم المردد بين الأقل والاكثر وبين العلم بين المتباينين، كما هو محل كلامنا، وأن هناك علما واحدا، وان هنا علمان، فهذا واضح لمن تصور المطلبين. إنما مدعى المستدل ان نكتة الانحلال هناك موجودة هنا بعد العلم التفصيلي، فالعلم اما بصوم يوم أو صوم يومين لماذا يستبطن انحلال نفسه ويقتضي هدم نفسه بعلم تفصيلي بالاقل وهو صوم اليوم وشك في الاكثر لنكتة الدوران بين الاقل والاكثر، فهذه النكتة حيث أوجب الانحلال هناك اوجبته هنا. فنحن لدينا علمٌ إجماليٌ دائرٌ بين المتباينين، لا بين الاقل والاكثر، اي علم إجمالي بنجاسة الإناء الازرق أو الأبيض، لكن بعد حصول العلم التفصيلي بنجاسة الأبيض اصبح ذاك العلم مردد بين الاقل والاكثر، اما نجاسة خصوص الأبيض أو الاكثر منه، فنكتة الانحلال واحدة، هذا الذي يريد ان يدعيه المستدل.
لذلك: فالمناقشة في هذا الوجه من الاستدلال تبتني على انكار تحقق هذه النكتة، وانه بعد العلم التفصيلي بنجاسة الأبيض ما تحول العلم الإجمالي السابق الى دوران بين الاقل والاكثر بل ما زال دائراً بين المتباينين. والسر في ذلك:
انه بعدما علمنا بنجاسة أحد الإناءين فمتعلق العلم مشيرٌ واقع متعين، اي: نجاسة متعينة في احد الإناءين، وبعد العلم التفصيلي بنجاسة الأبيض ما زلنا مترددين في أن تلك النجاسة المشار اليها بالعلم الإجمالي السابق هل هي في هذا الإناء المعلوم تفصيلا أم في غيره، فالعلم الاجمالي السابق ما زال مرددا بين المتباينين حتى بعد العلم التفصيلي بنجاسة الإناء الابيض، فكتة الانحلال في العلم الدائر بين الأقل والأكثر غير حاصله في العلم الدائر بين المتباينين.
الوجه الثاني: من وجوه اثبات الانحلال: ما ذكره المحقق النائيني «قده»: في «أجود التقريرات: ج2، ص242»، وتبعه سيدنا الخوئي، في «مصباح الأصول، ج2، ص351»: ومحصله:
أنّ العلم الإجمالي متقومٌ بركنين: الركن الاول: انه علم بالجامع. فإذا علم بنجاسة أحد الإناءين فقد علم بجامع للنجاسة يحتمل انطباقه على إناء الف أو إناء باء على سبيل البدل.
الركن الثاني: أن العلم الإجمالي علمٌ بالجامع بحدّه الجامعي، والمقصود أنه علم بالجامع بحده الجامعي: تساوي الطرفين في الاحتمال، أي أن احتمال انطباقه على اناء ألف يتساوى مع احتمال انطباقه على باء. فهو علم إجماليٌ بجامع يتساوى احتمال انطباقه على الأطراف. ثم حصل لنا العلم التفصيلي بنجاسة باء، فهل زال الركن الثاني من ركني العلم الإجمالي وهو مساواة الطرفين من حيث الاحتمال؟!.
أم أن الركن الثاني ما زال باقياً؟. فالصحيح الموافق للوجدان بحسب منظور المحقق النائيني: أن الركن الثاني قد زال. فبعد ان كان الجامع متساوي النسبة حيث يحتمل انطباقه على اناء باء وإناء الف في عرف واحد، أصبح احتمال انطباقه على إناء باء معلوماً واحتمال انطباقه على إناء الف مشكوكاً فزال التساوي في الاحتمال إلى علمٍ بالانطباق على احدهما دون الآخر، والسر في ذلك:
أنّ العلم الإجمالي أنما وقف على الجامع ولم يسر الى الواقع لأن المعلوم غير منكشف، إذ علم المكلف بنجاسة في احد الإناءين، إلا أن هذه النجاسة المعلومة ما زالت مبهمة غير منكشفة بحدها التفصيلي، فلأجل غموضها وعدم انكشافها بقي العلم واقفا على الجامع ولم يسر الى الوقع. لكن، بعد أن علمنا تفصيلاً بنجاسة الأبيض فإن المعلوم قد زاد انكشافه بحيث تعين لنا حد من حدوده التفصيلية. ومقتضى زيادة الانكشاف زوال الركن الثاني من ركني العلم الاجمالي وهو التساوي في الاحتمال، وبعد زوال ركنه لا يعقل بقاءه، وهذا هو معنى انحلال العلم الإجمالي حقيقةً.
وهنا إشكالات على كلام المحقق:
الإشكال الأول: ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين في كتابه «المباحث الأصولية»: من أن هذا التصوير وهو قول المحقق النائيني: أن العلم الإجمالي متقومٌ بركنين: العلم بالجامع والجامع بحده الجامعي. إما ان يقصد به أن الركنين متلازمان، فإذا زال احدهما زال الاخر؛ أو مستقلان. فإن قصد به انهما متلازمان: فكلامه تام، إذ بعد زوال الثاني يزول الاول لتلازمهما فلا يبقى علم اجمالي وجدانا، لكن الصحيح انه ليس للعلم الاجمالي ركنان، بل ركن واحد، فهو علم بجامع عرضي وهو عنوان الاحد، ومتى ما كان العلم علما بجامع عرضي كعنوان الاحد فلا محالة سوف يكون احتمال انطباقه على كل طرف على سبيل البدل، فليس هناك ركنان بل علم بجامع عرضي ولازم الجامع العرضي هو احتمال الانطباق على سبيل البدل. وأما إذا كان مدّعاه انهما ركنان مستقلان: فمن الواضح ان زوال احدهما لا يعني زوال الاخر لانهما مستقلان.
ولكن ما أفيد غير تام، والسر في ذلك:
أن تصوير شيخ المحققين الميرزا النائيني من باب التحليل العقلي، فقد ذكرنا هذا في بحث «حقيقة العلم الاجمالي» فكما يقال: أن لحقيقة الانسان صورتين: صورة اجمالية، ويعبر عنها بالنوع. وصورة تفصلية، ويقول انها مركبة من الجنس والفصل. فالصورة الثانية مجرد تحليل عقلي لتلك الحقيقة البسيطة المعبر عنها بالانسان. فكما الكلام في المقام: فالعلم الاجمالي كما شرحه المحقق النائيني علم بالجامع الكذائي، إلا أن هذه الحقيقة البسيطة يقوم علقه بتحليلها الى جزءين وعنصرين: علم بالجامع بحده الجامعي. فالتركيب مجرد تحليل لتلك الحقيقة البسيطة لا ان حقيقته مركبه.
وثانيا: إن ما ذكره بعد ذلك وهو: ان كان مدعاه أنهما ركنان مستقلان فزوال احدهما لا يعني زوال الاخر فرق غير معقول، إذ معنى كون المركب مؤلفا من عنصرين ان الاجزاء ارتباطية، إذ لا يتصور في المركب ان يكون مؤلفا من عنصرين مستقلين فهذا خلف التركيب، فلا معنى لفرض هذا في مقام الإشكال على المحقق النائيني. إذ بعد أن قال انه - العلم الإجمالي - مركب من جزءين فلا محالة يكون الجزءان ارتباطيين لا مستقلين، فالفرق في مقام الإشكال خلف ما هو المدعى. فهذا الإشكال الفني غير وارد على كلام المحققين النائيني والخوئي «قده».
الإشكال الثاني: وهو المهم:
ما ذكره المحقق العراقي «قده» في تعليقته على الفوائد «ج4»: أفاد بأن الحد الجامعي لم يزل بل ما زال باقيا. والسر في ذلك: أن العلم الإجمالي ليس علماً بالجامع بما هو جامع، بل علم بالجماع المشير لواقع. لا انه علم بالجامع بما هو جامع، والا لكان انطباقه على المعلوم بالتفصيل امرا متسالما بلا إشكال الن الجامع ينطبق على فرده، وانما هو علم بجامع مشير الى واقع. فاذا كان كذلك: فما علمه المكلف اولاً علم بنجاسة مشيرة الى قذارة متعينة بأحد الإناءين. ولأجل ذلك يحتمل انطباق ذلك الواقع المشار اليه على كل منهما على سبيل البدل. ثم بعد ذلك حصل لدى المكلف علم تفصيلي بجاسة الأبيض. لكنه ما زال يقول: أن تلك النجاسة وذلك الواقع المشار اليه بالجامع يحتمل انطباقه على هذا ويحتمل انطباقه على الإناء الآخر. فالحد الجامعي وهو: احتمال الانطباق على كل منهما على سبيل البدل ما زال باقياً لم ينهدم، ولم يتأثر. كيف يدّعى الانحلال الحقيقي؟. وما المقام الا انضمام العلم التفصيلي الى علم اجمالي والا فالعلم الاجمالي الاول ما زال قائما في النفس لم ينحل بهذا العلم التفصيلي.
فهل ما ذكره المحقق العراقي خاص بمبناه في حقيقة العلم الإجمالي؟ أو إشكال على جميع المباني؟. هذا ما تعرّض له سيد المنتقى «قده» في «ج5، ص92». ويأتي الكلام عنه وعن إشكال السيد الصدر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo