< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

36/12/19

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

يقع الكلام فعلا في الجمع بين دليل حجية الامارة الاجمالية ودليل الاصل العملي. فإذا افترضنا أنه قامت امارة على أنّ من أفطر في شهر رمضان لعذر فيجب عليه إما القضاء أو الفدية. فهل يمكن جريان أصالة البراءة في أحد الطرفين؟ أم لا؟.
قالوا: لا يمكن. أي بعد ان قامت الامارة على أن احدهما واجب، فلا مجرى لاصالة البراءة لا في كليهما لكونه مصادمة لدليل حجية الأمارة. ولا في أحدهما. فما هو الوجه في عدم جريان دليل الاصل الترخيصي في أحدهما؟.
ذكرت هنا وجوه:
الوجه الأول: ما أفاده المحقق العراقي في «نهاية الافكار»: من أن دليل الاصل محكوم بالمدلول الالتزامي للأمارة. بيان ذلك:
إذا قامت الأمارة على وجوب أحد الأمرين، اما القضاء أو الفدية، فلها مدلول مطابقي ولها مدلول التزامي. فمدلوها المطابقي: ان احدهما واجب، ومدلولها الالتزامي هو وجوب كل منهما ان لم يجد الآخر. فهي تقول: القضاء واجب إن لم تجب الفدية. والفدية واجبة إن لم يجب القضاء. فهذا مدلول التزامي للأمارة نفسها، وبناءً على ذلك:
فاذا قام دليل اصالة البراءة في أحد الطرفين فقال: تجري البراءة عن وجوب الصوم، فهذا وان لم يناف المدلول المطابقي وهو وجوب احدهما، لكنه ينافي المدلول الالتزامي وهو وجوب الصوم إن لم تجب الفدية، ووجوب الفدية إن لم يجب الصوم، فكل منهما واجب إن لم يجب الآخر، وبالتالي: فالبراءة عن وجوب الصوم لا تجري، لأنّها إما ان تجري بنحو القضية المشروطة؟!، أو تجري بنحو القضية المطلقة؟.
فإن جرت بنحو القضية المشروطة: بمعنى: ان مفاد دليل اصالة البراءة: البراءة عن وجوب الصوم ان وجبت الفدية، لا البراءة عن وجوب الصوم مطلقا، فاذا كان هذا مفاد دليل البراءة فلا اثر له لأن الشرط لم يحرز فكيف يحرز المشروط، فإذا كان مفاد البراءة، البراءة عن وجوب الصوم ان لم تجب الفدية، ونحن لا ندري ان الفدية واجبة أم لا؟ أو إذا وجبت الفدية، ونحن لا ندري ان الفدية واجبة أم لا؟ فحيث لا نحرز الشرط لم نحرز المشروط، فأي ثمرة في جريان البراءة.
وان كان مفاد البراءة القضية المطلقة: يعني الصوم غير واجب حتى في فرض عدم وجوب الفدية. فهذا الاطلاق يتنافى مع المدلول الالتزامي للامارة. فإن المدلول الالتزامي للامارة وجوب احدهما ان لم يجب الاخر فكيف تقول الامارة لا يجب الصوم ان لم يجب الفدية.
إذن بما ان مدلول الاصل هو البراءة عن وجوب الصوم مطلقاً - وان لم تجب الفدية - وهذا يتنافى ويتصادم مع المدلول الالتزامي للامارة وهو احدهما، هذا واجب ان لم يجب ذاك، وذاك واجب ان لم يجب هذا، فيكون مفاد الاصل محكوما بمفاد المدلول الالتزامي للامارة.
ويلاحظ على ذلك: أن المسألة تبتني على أن الاطلاق جمع القيود؟ أو رفض القيود؟.
فنحن ندّعي ان دليل البراءة يجري ومفاده القضية المطلقة، لكن ما معنى الاطلاق، هل معنى اطلاق دليل البراءة ان دليل البراءة يجري في وجوب الصوم في فرض عدم وجوب الفدية؟.
فهنا يأتي اشكال المحقق العراقي، إذ كيف تجري البراءة عن وجوب الصوم في فرض عدم وجوب الفدية هذا يعني ان احدهما ليس واجبا، هذا مبني على رجوع الاطلاق لجمع القيود، أي أن معنى الاطلاق جريان البراءة عن وجوب الصوم في فرض عدم وجوب الفدية، وهذا يتنافى مع مدلول الامارة.
وأما اذا قلنا: كما يقول العراقي «قده»، أن الاطلاق رفض القيود لا جمع القيود، اي ليس معنى الاطلاق إلا ان القيد لم يؤخذ. فمثلاً: إذا قلنا: يجب اكرام الهاشمي، فمعنى الاطلاق انه لم يؤخذ في وجوب الاكرام كون الهاشمي عالما، لا أن معناه السريان الى جميع القيود وجميع الحالات، فهذا امر غير ملحوظ في مقام الاطلاق. إذن معنى اطلاق جريان دليل البراءة، ان وجوب الصوم غير منجز عليه في نفسه، أما عدم تنجزه حتى في فرض عدم وجوب الفدية هذا امر لا يتكفل له الاطلاق. فهذا هو معنى رجوع الاطلاق لرفض القيد، لا إلى جمع القيود. وبناءً على ذلك لا تنافي بين جريان البراءة والمدلول الالتزامي، فالامارة خبر الثقة يقول: يجب احدهما، ولازم ذلك: ان الصوم واجب ان لم يجب الفدية، والفدية واجبة ان لم يجب الصوم. ودليل البراءة يقول: ما دمت لا تدري عن وجوب الصوم، إذن ليس متنجزا عليك في حدّ نفسه، وأنا ساكت عن عن تنجزه في فرض عدم وجوب الآخر أو عدمه.
فلا منافاة بين مفاد دليل البراءة والمدلول الالتزامي للامارة كي يكون حاكما عليه، فإن حكومة دليل على آخر أو ورود دليل على آخر فرع اجتماعهما وتنافيهما. اما إذا كان مفاد كل منهما حيادياً، فاذا لم يتنافى معه فلا موجب لحكومة أحدهما على الآخر.
فما ذكره العراقي من الوجه غير تام.
الوجه الثاني: ما أفاده السيد الشهيد «قده» انتزاعا من كلمات المحقق العراقي: أنه بعد المفروغية عن وجود مدلول مطابقي للأمارة وهو ان احدهما واجب، ومدلول التزامي لها وهو: الصوم واجب ان لم تجب الفدية، فالفدية واجبة ان لم يجب الصوم. فمقتضى حجية الامارة في كلا مدلوليهما المطابقي والالتزامي حصول علم اجمالي واجداني منجز، وهو: إذا كان مفاد الامارة ان الصوم واجب ان لم تجب الفدية، وان الفدية واجبة ان لم يجب الصوم. إذن مقتضى حجية هذا المفاد: ان اعلم أنه: إن لم تجب الفدية واقعا فالصوم واجب على كل حال، اما واجب واقعاً، أو واجب على الاقل ظاهرا بمقتضى حجية هذه الامارة. فبعد أن افترضنا ان هذه الامارة حجة في مدلولها الالتزامي، إذاً نستطيع ان نقول: إن لم تكن الفدية واجبة فالصوم واجب، لا أنه هو الواجب واقعا، فلا اقل هو واجب ظاهراً. وكذلك الفدية واجبة قطعا اما ظاهراً أو واقعاً إن لم يجب الصوم. فعندي علم إجمالي، إما الصوم واجب واقعا أو ظاهرا، أو الفدية واجبة ظاهرا أم واقعا، وهذا علم اجمالي وجداني. فبعد أن آلت القضية الى علم اجمالي منجز فالنتيجة عدم جريان دليل اصالة البراءة فلا تجري البراءة لا في كلهيما لأنه ترخيص في المخالفة القطعية، ولا في أحدهما، لانه ترجيح بلا مرجّح، كسائر موارد العلم الإجمالي المنجز.
فهذه هي النكتة في عدم جريان دليل الاصل مع وجود حجة إجمالية.
ولكن إن حصول هذا العلم الاجمالي فرع حجية الامارة في مدلولها الالتزامي، فالامارة لا اشكال انها حجة في مدلولها المطابقي، وهو احدهما واجب، لكن هذا المدلول الالتزامي وهو القضية الشرطية «يجب الصوم ان لم تجب الفدية، تجب الفدية ان لم يجب الصوم» في عرض دليل الاصل، اي عندنا دليلان في عرض واحد: دليل حجية الاصل: اصالة البراءة «رفع عن امتي ما لا يعلمون». وعندنا دليل حجية الامارة. وكلاهما في عرض واحد. إذا قام دليل حجية الامارة على أن الأمارة حجة في مدلولها المطابقي فهذا لا يتصادم مع دليل حجية الاصل، ولكن لو شمل دليل حجية الامارة المدلول الالتزامي لكان مصادما لدليل حجية الاصل، لانهما لا يتنافيان من حيث المدلول المطابقي، وانما يتنافيان من حيث المدلول الالتزامي. فإذا كان دليل حجية الأمارة يقول: هذه الامارة الاجمالية حجة في مدلولها المطابقي وأنا ساكت، فلا منافاة بين الدليلين. أما إذا قال: دليل حجية الامارة، هذه الامارة حجة في مدلوها المطابقي ومدلوها الالتزامي معاً، إذن هذا إلغاء وضرب لدليل حجية الاصل، ودليل حجية الاصل هو بنفسه امارة، لأن الاصل هو النتيجة، اما الدليل نفسه وهو «رفع عن امتي ما لا يعلمون» أمارة، فهاتان الامارتان في عرض واحد. فتقديم أحدهما على الآخر في مورد التنافي ترجيح بلا مرجح.
إذن نقول: سلمنا أن دليل حجية الامارة لو شمل المدلول الالتزامي لحصل علم اجمالي منجز، وهذا العلم الاجمالي المنجز يمنع من جريان الاصل كسائر موارد العلم الاجمالي، لكن نقول: ما هو الدليل على شمول دليل الحجية للمدلول الالتزامي لهذه الامارة المجملة؟.
إن قلت: ما هو المانع؟. قلنا: لو شلمه الغى دليل حجية الاصل وحيث ان الدليلين في عرض واحد، وكلاهما أمارة فلا مرجّح لأحدهما على الآخر، إذ قد يقول قائل نحن نتمسك باطلاق دليل حجية الاصل فيلغي المدلول الالتزامي للأمارة. أو نتمسك باطلاق دليل حجية الامارة فيلغي دليل الاصل.
إذن بالنتيجة: ما اعتبره السيد الشهيد أمراً مفروغاً عنه ورتّب عليه ثبوت علم اجمالي هو اول الكلام.
الوجه الثالث: أن دليل حجية الامارة اخص من دليل حجية الاصل فيقدم عليه تقديم الخاص على العام. فإن دليل اصالة البراءة يقول: ما لم تعلم به فليس منجزاً عليك وجدت امارة مجملة أم لم توجد. بينما دليل حجية الامارة ليس له اطلاق لغير فرض الشك. فكلاهما وارد مورد الشك في الحكم، من شك في الحكم يأتي دليل الاصل يقول غير منجز، ويأتي دليل الامارة يقول الامارة الاجمالية حجية عليك، فموضوعهما واحد وهو الشك، لكن دليل حجية الاصل يقول: ما لم تعلم لا يتنجز عليك، قامت الامارة أم لم تقم. بينمنا دليل حجية الامارة يقول: فإن قامت أمارة على الحكم تفصيلا أو إجمالاً خرجنا عن اطلاق دليل الاصل. فمفاد دليل حجية الامارة اخص مطلقا من مفاد دليل حجية الاصل فيقدم عليه تقدم الخاص على العام.
فهل هذا تام؟ وان قبله جملة من الاعلام منهم شيخنا الاستاذ «قده». أم يقال: بأن الملحوظ جريان دليل الاصل في احدهما. وليس بحثنا في شمول دليل البراءة لكلا الطرفين فإن هذا واضح مصادمته لحجية الامارة، وانما كل كلامنا في جريان دليل البراءة في احدهما وهو الصوم مثلا، فهل بهذا اللحاظ يكون دليل حجية الامارة اخص؟ أم بهذا اللحاظ يكون بينهما عموم من وجه؟.
فنقول: لو لم نأخذ هذا اللحاظ، نقول: نعم دليل حجية الامارة اخص مطلقا من دليل حجية الاصل فيقدم عليه تقدم الخاص على العام. أمّا إذا كان الامر في جريان دليل الاصل في أحد طرفي الامارة الاجمالية كالصوم مثلا، فإن دليل حجية الاصل يقول: أنا اشمل هذا الطرف قامت امارة اجمالية عليه أم لم تقم.
ودليل حجية الامارة يقول: أنا اشمل هذا الطرف بمدلولي المطابقي أو بمدلولي الالتزامي جرى الاصل فيه أم لم يجر لوجود حاكم عليه، أو لانتفاء موضوعه أم ما اشبه ذلك.
كيف يُدّعى في حل المشكلة ان دليل حجية الامارة اخص مطلقا من دليل حجية الاصل.
فالجواب: إن هذا لا يتم فيما هو منظور البحث، ألا وهو جريان دليل الاصل في احدهما لأنه بهذا اللحاظ تكون النسبة بينهما عموما من وجه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo