< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/01/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

وصل الكلام إلى ما إذا اضطر المكلّف إلى ارتكاب أطراف العلم الاجمالي، فهنا مقامان للبحث:
إذ، تارة: يضطر المكلف إلى ارتكاب طرف بعينه، وتارة: يضطر المكلّف إلى ارتكاب الجامع، أي أحد الطرفين لا بعينه. فالكلام أولاً في:
المقام الأول: وهو: ما إذا اضطر المكلف إلى ارتكاب طرف بعينه. وهذا المقام أيضاً له صورتان: لأنه، تارة: يكون الاضطرار سابقاً أو مقارناً للعلم بالتكليف. وتارة: يكون الاضطرار لاحقا للعلم بالتكليف.
فنتكلم أولاً عن الصورة الاولى: وهي: ما إذا اضطر ثم علم بالتكليف أو كان اضطراره مقارنا للعلم بالتكليف، مثلاً:
إذا اضطر المكلّف لشرب أحد المائين بعينه لكونه ماءً، كما إذا كان هناك مائعان أحدهما ماءً والآخر غازاً مثلاً، والمكلّف مضطرٌ لشربِ الماء منهما، وبعد أن اضطر لشرب الماء من هذين المائعين علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، أو علم اجمالا بغصبية احدهما، فالاضطرار مقارن أو سابق على العلم الاجمالي بالتكليف، فهنا لا اشكال في عدم ثبوت التكليف في الطرف المضطر إليه وهو الماء، لا كلام في أن التكليف لا يثبت في الطرف المضطّر إليه فليس هذا محل البحث، وإنما محل البحث في الطرف غير المضطّر إليه، هل يتنجز العلم الاجمالي في الطرف غير المضطّر إليه وهو الحليب مثلاً أو الغاز مثلاً أو لا؟، حيث إنه مضطّر لشرب الماء من بين هذين المائيعن والتكليف ليس ثابتاً فيه لاضطراره. ولكن هل يتنجز العلم الاجمالي بالنجاسة أو الغصبية في الطرف الآخر فلا يمكنه تناوله أو بيعه أو ما اشبه ذلك من الآثار الشرعية؟.
وهنا اتجاهان في المسائلة لا كما يبدو في بعض التقريرات من التسالم على عدم المنجزية:
الاتجاه الاول: هو الاتجاه المعروف بين الأصوليين: من أنّ العلم الاجمالي غيرُ منجزٍ في كلا الطرفين وإن علم بنجاسة أحدهما أو غصبية أحدهما إلّا أنّ هذا العلم الاجمالي حيث إنه مقارن للاضطرار أو لاحق للاضطرار فإنه غير منجز البتّة. وبيان ذلك:
تارة: نبني على ما هو المعروف من أنّ القدرة شرط في التكليف. وتارة: نبني على مسلك السيد الامام «قده» من أنّ القدرة لا دخل لها في التكليف، وإنّما إحراز العجز مانعٌ من تنجز التكليف وإلا فالتكليف بحسب نظره يثبت حتى في الفعل المعجوز عنه فضلاً عن الفعل المضطّر إليه، غاية ما في الباب إنّ إحرز العجز لم يتنجز عليه وإلّا فهو فعلي، فتارة: نبني على المسلك الاول المعروف بينهم من أنّ القدرة دخيلة في فعلية التكليف، فلا فعلية مع العجز، فبناءً على هذا المسلك يكون الأمر واضح، لأننا نقطع بعدم ثبوت التكليف في الطرف المضطّر إليه، ونشكّ شكّاً بدوياً في التكليف في الطرف غير المضطر إليه إذ لعلّ المغصوب هو المضطّر إليه أو النجس هو المضطّر إليه، فإذا علمنا بعد أن اضطررنا لشرب الماء علمنا أنّ هناك مغصوباً أمّا الماء أو الكوكا كولا مثلاً، ولكننا مضطّرون لشرب الماء، فهنا نقول: قطعاً لا تكليف في الماء، وأما ثبوت التكليف في الطرف الآخر فهو مشكوك شكّاً بدوياً فتجري البراءة. هذا على مسلك اهل القدرة.
أمّا على المسلك الآخر: مسلك السيد الخوئي «قده»: من أنّ القدرة لا دخل لها في فعلية التكاليف القانونية كالتكاليف الشرّعية، فعلمنا بأن أحد المائعين غصب أو نجس يعني علم بتكليف فعلي، مجرد أننا مضطرون لشرب الماء منهما لا يغير من الواقع شيء، فما علمنا به إجمالاً هو تكليف فعلي، علم بتكليف فعلي باجتنب النجس، إنما هل أن هذا التكليف متنجز أم لا؟ وإلا فهو فعلي، فهنا أفاد «قده» مشى على مسلك المشهور من عدم المنجزية قال: أنّه لم يحرز حكم العقل والعقلاء بالاحتياط هنا، فإذا دار أمر المكلف به بين اجتناب الماء أو اجتناب الحليب مع الاضطرار إلى الماء يقول: نحن لا نحرز حكم العقل بالاحتياط في المقام، إذاً هناك شك في حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي المزبور. فالنتيجة: مع الاضطرار لأحد الطرفين بعينه ليس العلم الاجمالي منجزاً في الآخر، قلنا بأنّ القدرة دخيلة بالفعلية أو قلنا بأنّه لا دخل لها إلّا في مرحلة التنجز، فتأمل.
ولكن أشكل البعض على هذا الاتجاه: بأنّ مقتضى الاستصحاب هو ثبوت التكليف، لأننا لا ندري هل اضطررنا لما هو الحرام فلا تكليف، أو اضطررنا لما هو الحلال فالتكليف ثابت في الآخر؟ فنستصحب عدم الاضطرار لما هو الحرام واقعا، لأننا لا ندري أن الحرام واقعاً هو الماء الذي اضطررنا إلى شربه أو الحليب المتعفن الذي لا يصلح للشرب. فنحن نشكُّ هل أن الاضطرار لما هو الحرام؟ ام لغيره؟ نستصحب عدم الاضطرار لما هو الحرام واقعاً فيثبت التكليف في غيره.
ولكن الجواب عن هذا الاستصحاب:
أولاً: هذا الاستصحاب إنما يتصور لو كان الشك في الخارج أي لو كانت الشبهة مصداقية بحيث يقع الشك فيما هو الخارج، وأما إذا كانت الشبهة حكمية بحيث ليس عندنا شك في الخارج فلا موضوع للاستصحاب أصلاً، مثلاً إذا علمنا أنّ الشارع أما أوجب صوم عرفة أو حرم صوم عاشوراء، نعلم إجمالاً أنّ المشرّع أمّا أوجب الأول أو حرّم الثاني، ونحن مضطرون في رتبة سابقة إلى الافطار في يوم عرفة، فهذه شبهة حكمية ليست مصداقية، ففي مثل هذه الشبهة ليس عندنا شكٌّ في الخارج، إذ الخارج معلومٌ أن الأول يوم عرفة والثاني يوم عاشوراء وأننا مضطرون للأول دون الثاني، ما عندنا شك في الخارج، بل الشك متمحض في جعل الشارع، هل أنّ ما جعل الالزام به هو صوم عرفة أو ما جعل الالزام به هو حرمة صوم عاشوراء، فإذا كان الشك في جعل الشارع لا في الخارج فلا معنى لجريان استصحاب عدم الاضطرار لما هو الحرام واقعا، لأنّه إنّما يجري الاستصحاب إذا شككنا في مصداق ما هو الحرام، أمّا إذا شككنا من الاول اضطررنا أو ما اضطررنا نشك في جعل الشارع ما هو؟ فلا معنى حينئذٍ لإجراء استصحاب عدم اضطرارنا لما هو الحرام. إذاً هذا الاستصحاب إنّما يتصور في الشبهة المصداقية دون الشبهة الحكمية.
ثانياً: سلمنا بجريان الاستصحاب، ما هو المقصود بجريانه؟ هل المقصود من جريان الاستصحاب اثبات التكليف في الطرف غير المضطر إليه؟ أو مجرد إثبات الجامع لا أكثر؟. فإن كان المقصود من الاستصحاب أي استصحاب عدم اضطرارنا لما هو الحرام أن نثبت أنّ التكليف للآخر، فهذا أصل مثبت. وأما إذا كان الغرض هو اثبات الجامع أي باستصحاب عدم طرو الاضطرار لما هو الحرام يثبت لدينا حرام، جامع بين ما يتنجز وهو غير المضطر إليه وما لا يتنجز وهو المضطر اليه، فإذا كان الغرض من الاستصحاب مجرد اثبات الجامع فهذا الجامع لو علم به لم يتنجز فضلا عما إذا ثبت بالاستصحاب، نحن لو علمنا من الاول بدون استصحاب بجامع بين ما يتنجز وما لا يتنجز، مثلاً: علمنا بوجوب اكرام إما العالم وإما ذلك السلطان الذي لا يمكن الوصول اليه؟. هذا العلم الاجمالي غير متنجز، لأنه علم بجامع بين ما يقبل التنجز وهو ما كان داخلا في محل الابتلاء وما لا يقبل التنجز وهو ما كان خارجا عن محل الابتلاء. فالعلم بالجامع بين ما يقبل التنجز وبين ما يقبل غير متنجز فكيف إذا ثبت هذا الجامع بالاستصحاب؟.
إذاً مجرد وجود جامع بين المضطر إليه وهو الذي لا يقبل التنجز وبين المضطر إليه وهو الذي يقبل التنجز مجرد ثبوت هذا الجامع في الاستصحاب لا اثر له.
ثالثاً: إنّ هذا الاستصحاب معارضٌ باستصحاب عدم حرمة الطرف الآخر. أنت تستصحب عدم اضطرارك لما هو الحرام من أجل أن تثبت فعلية التكليف في الآخر، هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم ثبوت الحرمة للطرف الآخر.
فتبين بذلك: تمامية ما ذكره المشهور من أنّ من اضطّر لأحد الطرفين بعينه كما إذا اضطر لشرب الماء بعينه ثم علم إجمالاً بنجاسة إما في الماء الذي اضطر اليه او في الغاز الذي سيبيعه فإنه حينئذٍ لا يكون هذا العلم الاجمالي منجّزاً. هذا هو الاتجاه الاول وهو اتجاه عدم المنجزية.
الاتجاه الثاني: القائل بالمنجزية: فقد شرحه السيد الاستاذ «دام ظله»:
أن الوجه في دعوى كون العلم الاجمالي منجزاً في الطرف غير المضطر إليه قياسه على موارد الشك في القدرة، بيان ذلك:
إذا حصل لدينا جامع بدلي كما إذا قال اكرم عالما، أو اكرم هاشميا، وتردد الهاشمي بين شخص يمكن اكرامه؟ وبين شخص لا يمكن اكرامه؟. فالمولى امرنا باكرام هاشمي، التكليف معلوم، وتردد الهاشمي الواجب الاكرام بين شخصين شخص لا يجب اكرامه وشخص يجب اكرامه، فهل يشك أحد بتنجز التكليف لا شك أنّ التكليف متنجز، ومجرد الشك في القدرة، لو فرضنا أنّه يشك في قدرته على اكرام من أمر المولى بإكرامه، الشك في القدرة ليس مسوّغاً لاجراء البراءة، لأنّ الشك في القدرة مجرى لأصالة الاحتياط لا للبراءة فأنا اعلم بتكليف وأشك في قدرتي على امتثاله لتردد الهاشمي الواجب إكرامه بين ما اقدر على إكرامه وبين من لا أقدر على إكرامه فمجرد شكّي في قدرتي ليس مسوّغاً للتنصل بل لابّد من التصدّي للامتثال، هذا مسلّم في الجامع البدلي.
فإذا كان المأمور به جامعاً شموليّاً لا بدليّاً، كما إذا قال لي: اكرم العالم، لا أكر عالماً؛ أو اكرم الهاشمي، لا اكرم هاشمياً. أي اكرم كل هاشمي، جامع شمولي، فإذا قال لي المولى: اكرم كل هاشمي وفي مورد تردد عندي الهاشمي بين شخصين احدهما لا اقدر على اكرامه، فهذا أيضاً من موارد الشك في القدرة، لأنني علمت بلزوم اكرام كل هاشمي وتردد هاشمي بين هذا الكلي بين زيد وبكر، واحدهما لا اقدر على اكرامه، ففي هذا المورد يقع الشك في القدرة على امتثال التكليف المعلوم، ومتى ما حصل شك في التكليف في القدرة على امتثال التكليف المعلوم وجب التصدي.
فبناء على هذا البيان يقول السيد الاستاذ: فإذا علمت اجمالاً بنجاسة أحد الإناءين او غصبية أحد الإناءين، وهذا الاناء أنت مضطّر لشربه دون هذا الاناء فعللك مضطر واقعا لما هو الحرام، أو لعلك مضطر واقعا لما هو الحلال، فأنت تشك بالنتيجة في قدرتك على امتثال التكليف المعلوم وهو اجتنب النجس او اجتنب المغصوب، والشك في القدرة على الامتثال مورد لأصالة الاحتياط لا للبراءة.
فما هو الجواب عن هذا الكلام؟.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo