< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ما زال الكلام فيما إذا اضطُر المكلّف لأحد طرفي العلم بعد تنجز العلم الإجمالي وفعليته، كما لو علم إجمالاً إما بنجاسة الماء أو الحليب، وبعد أن تنجز في حقه حصل له اضطرار لشرب الماء بعينه. فهنا ذكرنا: أن سيد المنتقى «قده» أفاد: بأنّ العلم الإجمالي بناءً على مسلك الاقتضاء غير منجز في الطرف الثاني بعد حصول الاضطرار.
وذكر مطالب: وصل الأمر الى:
المطلب الثاني: ومحصلّه: إذا كان لدينا عامٌّ وورد مخصصٌّ لهذا العام ودار أمر المخصّص بين الأقل والأكثر يقتصر في تخصيص العام على المقدار المتيقن وهو الأقل، وينفى الأكثر بأصالة العموم. فإذا ورد مثلاً: أكرم كل عالم، ثم ورد عليه مخصص: لا تكرم العالم الفاسق، وتردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم من مرتكب الصغيرة، اقتُصِرَ في تخصيص العام على القدر المتيقن وهو مرتكب الكبيرة وتُمسِكَ به في مرتب الصغيرة.
وفي المقام كذلك: فإن لدينا عاما وهو دليل أصالة الطهارة حيث قال: «كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر». وورد مخصص لهذا العام وهو العلم الإجمالي، إذ في موارد العلم الإجمالي المنجز لا يكون دليل الأصل شاملا لجميع اطراف العلم الاجمالي. فمورد العلم الإجمالي المنجز مخصص لعموم أصالة الطهارة. ولكننا لا ندري هل خرج بهذا العلم الاجمالي اصالة الطهارة في الطرف الأول وهو الماء قبل حصول الاضطرار ام الذي خرج عن أصالة الطهارة كلا الأصلين، اي اصالة الطهارة في الماء، واصالة الطهارة في الحليب بعد حصول الاضطرار. فيدور الامر في المخصص بين الاقل والاكثر، هل ان لخارج عن اصالة العموم في قوله: «كل شيء لك نظيف حتى تعلم انه قذر»، هل الذي خرج عن تحت خصوص أصالة الطهارة في الماء قبل ان يحصل الاضطرار؟، أم الذي خرج عن تحته كلا الاصلين، أي أصالة الطهارة في الماء قبل حصول الاضطرار وأصالة الطهارة في الحليب بعد حصول الاضطرار، فالأمر دائر في المخصص بين الاقل والاكثر فنقتصر على القدر المتيقن. وهو الأقل، أي أن الذي خرج عن عموم أصالة الطهارة ببركة العلم الإجمالي خصوص أصالة الطهارة في الماء قبل حصول الاضطرار. فيبقى أصالة الطهارة في الحليب بعد حصول الاضرار جارياً، بمقتضى التمسك بالعموم في قوله: «كلُّ شيءٍ لك نظيف».
ولكن ما أفاده محل منع. والسر في ذلك: أنه تارة يكون لأحد الطرفين مزيّة ثبوتية، بحيث يصبح هو القدر المتيقن مما خرج عن العموم، كما لو افترضنا أن أحد الطرفين جامع للمحاذير مثلاً، فإذا افترضنا أن في أحد الطرفين مزية ثبوتية ترجحه على الآخر حيث يصح لنا ان نقول: القدر المتيقن مما خرج عن اصالة العموم في قوله: «كل شيء لك نظيف» هو هذا الطرف ذو المزية الثبوتية، ونشك في خروج غيره عن العموم فنتمسك فيه للعموم.
أمّا إذا لم يكن لأحد الطرفين اي مزية ثبوتية كما هو الموارد المتعارفة في العلم الاجمالي، فمثلاً اذا علمنا اجمالا أما بنجاسة الماء او نجاسة الحليب فلا يوجد في احد الطرفين مزية ثبوتية تميزه عن الآخر. وبالتالي: إذا خرج عن أصالة الطهارة شيءٌ فالخارج هو عدم جريان الاصل فيهما معاً، أمّا ما هو القدر المتيقن من ما خرج؟ هل هو الاصل في الماء قبل الاضطرار؟ هل هو الاصل في الحليب قبل الاضطرار؟ هل هو الاصل في الحليب بعد الاضطرار؟ فالأصل بالنسبة الى الجميع يكون مجملاً، لأنّ الذي نتيقن بخروجه عن اصالة العموم في قوله: «كل شيء لك نظيف» عدم جريانه فيهما معاً، لا عدم جريانه في واحد منهما. فعدم جريانه في الجميع هو القدر المتيقن مما خرج عن أصالة العموم، لا أنّ هناك قدراً متيقناً خارجاً عن أصالة العموم في واحد منهما، هذا غير متيقن.
بل نقول: اذا حصل العلم الاجمالي المنجز فجريان أصالة الطهارة فيهما معاً ترخيص في المخالفة القطعية. او جريان اصالة الطهارة فيهما معا مبتلاة بارتكاز المناقضة، وهذا يوجب أن لا عموم في دليل اصالة الطهارة بالنسبة الى كليهما.
أما اذا لم يجر العموم في كليهما، فيجري في الطرف غير المضطر اليه دون الطرف المضطر اليه، ما هو المعين لذلك؟ الذي خرج ان لا يجري في كليهما، اما بعد الفراغ عن ذلك وهو عدم جريان دليل الأصل في كليهما فما هو عدم المشكوك؟. عدم جريانه في الماء قبل الاضطرار محتمل، عدم جريانه في الحليب قبل الاضطرار ايضاً محتمل، عدم جريانه في الحليب بعد الاضطرار أيضاً محتمل ولا مرجّح لأن يكون احد الاطراف الثلاثة هو القدر المتيقن مما خرج عن اصالة العموم، فدليل أصالة الطهارة بالنسبة لكل من الاطراف الثلاثة يكون مجملاً. فالذي نعلمه انه لا يشملهما معا، وانما نعلم بعدم شموله لواحد معين منهما ونشك في شموله للآخر فنتمسك فيه بأصالة العموم فهذا مما لا قرينة ولا شاهد عليه.
فالنتيجة: بعد سقوط اصالة الطهارة فيهما معاً لا معين لأحدهما إثباتاً كي يقال: تجري اصالة الطهارة في الحليب بعد الاضطرار بلا مانع.
المطلب الثالث: ما ذكرها الاعلام هو: أن هذا العلم الاجمالي وهو العلم بنجاسة الماء او الحليب منجز قبل أن يضطر المكلف لشرب الماء، والسر في تنجيزه: أن الجمع بين الاصلين يعني: الجمع بين جريان اصالة الطهارة في الماء الآن قبل الاضطرار، وأصالة الطهارة في الحليب حتى بعد الاضطرار، الجمع بين الاصلين ترخيص في المعصية، بحيث لو شرب الماء ثم شرب الحليب من بعده تمسكا بهذين الاصلين لوقع في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي جزماً. إذاً جريان الأصل في الطرفين معا ترخيص في المخالفة القطيعة فالعلم الاجمالي منجز وان حصل الاضرار بعد ذلك لشرب الماء، فإنه لا يوجب تغير الموضوع، أي أن العلم الإجمالي كان منجزاً فيبقى منجزاً.
لكن سيد المنتقى «قده» قال: الذي يوجب تعارض الأصول ليس هو أن جريان الاصل ترخيص في المخالفة القطعية بل مع الضميمة وهي ان يقال: ان جريان الاصل فيهما ترخيص في المعصية وجريانه في احدهما المعين ترجيح بلا مرجح، فالموجب لتعارض الاصول ومنجزية العلم الاجمالي هو مجموع هذين الامرين لا احدهما فقط. وهما: إنّ جريان الأصل فيما ترخيص في المعصية، وجريانهما في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، فإذا تم الامران تعارضت الاصول وكان العلم الاجمالي منجزاً والامران لم يتما في محله. لأننا نقول: جريان اصالة الطهارة في الماء والحليب ترخيص في المعصية؛ أما جريان أصالة الطهارة في الحليب بعد اضطرار المكلف الى شرب الماء ليس ترجيحاً بلا مرجح، بل ترجيح مع المرجح، والمرجح عدم جريان الاصل في الماء لاضطرارك لشربه على كل حال، فبعد اضطرار المكلف لشرب الماء لا يجري الاصل فيه، فإذا لم يجر فيه الاصل كان هذا مرجّحاً لجريان الاصل في الحليب فلا تعارض في الاصول كي يكون العلم الاجمالي منجزاً.
فجريان اصالة الطهارة في الحليب بمرجح لا انه بلا مرجح.
والجواب عن ذلك:
حتى لو اخترنا مبناه من أن موضوع أصالة الطهارة هو الشك والشك متعدد بتعدد الآنات، فهناك أصول عديدة بعدد الآنات وطهارات عديدة بعدد الآنات ففي كل آن يوجد اصل طهارة لان في كل آن شكاً.
مع ذلك نقول: قبل حصول الاضطرار لشرب الماء، يقول المكلف أصالة الطهارة في الماء اليوم تعارض جميع أصول الطهارة في الحليب. من الآن اصالة الطهارة في الماء تتعارض مع جميع اصالات الطهارة المتصورة في الحليب لان الجمع في اصالة الطهارة في الماء اليوم واصالات الطهارة في الحليب ترخيص في المعصية، ولا معين إثباتاً لأحدهما. المقصود بمسألة الترجيح بلا مرجح كما يقول بها سيدنا «قده»: أن لا معين اثباتاً، اي لا معين من حيث لسان الدليل. هذا المقصود بالترجيح بلا مرجح. أي أنّ قوله: «كل شيء لك نظيف» هذا اللسان هل فيه قرينة اثباتية توجب انصرافه لأحدهما دون الآخر ام لا؟. لا توجد. فإنّ هذا اللسان متساوي النسبة للماء وللحليب. فلا توجد قرينة إثباتية توجب انصرافه لأحدهما دون الآخر. وهذا هو معنى: ان جريانه في احدهما المعين ترجيح بلا مرجح.
فبالنتيجة: أنه إذا نظر المكلف للمسالة قبل حصول الاضطرار قال: إن دليل أصالة الطهارة لا يشمل أصالة الطهارة في الماء ولا أصول الطهارة في الحليب في آن واحد. لأنه ترخيص في المعصية. وشمول هذه اللسان لأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، لأنه متساوي النسبة بالنسبة للجميع. فالمشكلة في مرحلة الجعل قبل مرحلة الفعلية، اي ان جعل الطهارة في كلا الطرفين معاً ممتنع، وجعل الطهارة في احدهما المعيّن دون الآخر بلا شاهد، إذاً ففي مرحلة الجعل دليل أصالة الطهارة لم يشمل المورد، فصار العلم الإجمالي منجزاً. وأما بعد أن حصل
وأما بعد أن حصل الاضطرار لشرب الماء وجاء المكلف الى الحليب، فيقول: ان الطهارة في الحليب الآن لا معارض لها في الماء، فنقول: بعد ان سقط الدليل في مرحلة الجعل لا جدوى في فعلية الموضوع في كلا الطرفين.
فبالنتيجة: ان ما حصل غايته ان الشك في النجاسة الآن: اي الشك في نجاسة الحليب الآن جاء بعد زوال الشك في نجاسة الماء الآن، وهذا غايته أن موضوع اصالة الطهارة صار فعليا في احد الاطراف بعد ان خرج الطرف الآخر عن العلم الاجمالي ولا اشكال ان فعلية الموضوع في احد الاطراف وان كانت متأخرة لا تحل المشكلة ما دام المحذور في مرحلة الجعل وهو ان شمول دليل الاصل في كليهما معا ترخيص في المعصية ولا موجب لانصرافه لأحدهما المعين فالدليل في مرحلة الجعل سقط، وبعد سقوط الدليل في مرحلة الجعل ففعلية الموضوع في أحد الطرفين لا جدوى فيها، ولا تنفع.
فتحصّل: أنّ العلم الاجمالي، منجز إذا حصل الاضطرار لأحد الطرفين بعينه بعد منجزية العلم الاجمالي. هذا تمام البحث في المقام الأول.
المقام الثاني: ما اذا اضطر لأحد الطرفين لا بعينه، كما لو علم إجمالاً بغصبية احدهما وهو مضطر لشرب واحد منهما. فهل لو شرب احدهما لرفع اضطراره يبقى العلم الاجمالي منجز في الثاني؟ او تزول المنجزية؟. او تزول المنجزية؟
ذهب صاحب الكفاية «قده» في «الكفاية»: ان العلم الاجمالي في فرض الاضطرار لأحد الطرفين لا بعينه ليس منجزاً، والسر في ذلك:
أنّه بعد اضطرار المكلف لأحد الطرفين لا بعينه «للجامع» يشمله دليل الاضطرار «رفع عن امتي ما اضطروا اليه» وبعد شمول دليل الاضطرار هو مخيّر في تطبيق هذا الجامع المضطر اليه على اي من الفردين، فما يختاره المكلف لرفع اضطراره قطعاً لا يكون التكليف فيه فعلياً، فلو اختار شرب إناء الف، إذاً فإناء ألف لا يكون التكليف في اجتناب النجس فيه فعلياً لعموم قوله «رفع عن امتي ما اضطروا إليه»، وهو قد طبّق ما اضطر اليه على ذلك. فما يختاره لرفع الاضطرار حلال واقعاً. ويشك في فعلية التكليف بالآخر. اذ لعل النجس هو ما اختاره لدفع اضطراره، فان كان النجس ما اختاره لرفع اضطراره كان شربه حلالاً واقعاً بمقتضى «رفع عن امتي ما اضطروا اليه»، إذاً ففعلية التكليف باجتناب النجس في الطرف الباقي مشكوكة فتجري البراءة عنه، فالعلم الاجمالي مع الاضطرار لأحد الطرفين غير منجز.
ولكن اجيب عن كلام الكفاية بوجهين:
الوجه الاول: ما ذكره المحقق النائيني: من ان المسألة من باب التوسط في التنجيز. وقابله العراقي: أن المسألة من باب التوسط في التكليف.
فما هو المقصود بذلك؟ يأتي الكلام عنه ان شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo