< قائمة الدروس

الأستاذ السيد منير الخباز

بحث الأصول

37/04/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي

ما زال الكلام في حكم ملاقي أحد اطرف الشبهة المحصورة، وذكرنا فيما سبق: ان هناك وجوها ثلاثة لبيان موضوع اجتناب الملاقي، وسبق الكلام في الوجه الاول.
الوجه الثاني: دعوى منجزية العلم الاجمالي الثاني، وهو ما ذهب إليه السيد الشهيد «قده» ومحصّل ذلك:
أننا إذا علمنا اجمالا اما بنجاسة العصير «أ» أو العصير «ب» ولاقى الماء الذي بين ايدينا العصير «أ»، فحينئذ يتشكل علم اجمالي جديد وهو العلم إما بنجاسة الماء أو نجاسة العصير «ب» أي اما بنجاسة الملاقي أو نجاسة عدل الملاقى كما في تعبيرات الاصوليون، فهل هذا العلم الاجمالي يوجد ما يوجب انحلاله أم لا؟.
وقد تعرّض الأعلام لعدة حلول لهذا العلم الإجمالي:
الحل الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم وتعبه المحقق النائيني «قدهما»: من أن الأصل الجاري في الملاقي اصل طولي فيجري فيه بلا معارض، وبيان ذلك:
إذا علمنا اجمالاً إما بنجاسة العصير «أ» أو نجاسة العصير «ب» وكان لدينا ماء لاقى العصير «أ» فحينئذ يقال: بأن أصالة الطهارة في العصير «أ» بالنسبة لأصالة الطهارة في الملاقي وهو الماء أصل موضوعي، وذلك لأن الشك في طهارة الملاقي مسبب عن الشك في طهارة الملاقى. وبعبارة أخرى: حيث قام الدليل على أن ملاقي النجس متنجس لذلك كان الشك في نجاسة الملاقي وهو الماء مسبب عن الشك في نجاسة الملاقى وهو العصير «أ»، فلو كان العصير «أ» هو النجس لكان الماء الملاقي له نجسا، ولو كان العصير «أ» طاهرا لكان الملاقي له طاهرا ما لم يكن نجس الذات أو ملاقيا لنجس آخر، إذن بما أن النجاسة في الملاقي وهو الماء مسببة عن النجاسة في الملاقى وهو عصير «أ» إذا الأصل الجاري في الملاقى متقدم رتبة عن الأصل الجاري في الملاقي، أي أن الأصل الجاري في الملاقى أصل موضوعي، بخلاف الأصل الجاري في الملاقي وهو اصل حكمي، لأن حكم الشارع على الملاقي بأنه نجس أو طاهر فرع كون الملاقى نجسا أو طاهراً. فحالة الملاقى موضوع بالنسبة إلى الحكم في الملاقي، لذلك يكون الأصل في الملاقى أصلاً موضوعياً بالنسبة إلى الأصل في الملاقي. وبناءً على ذلك:
فإذا جرت أصالة الطهارة في الملاقى وهو العصير «أ» لا تجري في عرضها أصالة الطهارة في الملاقي لأنها متفرعة عليها، فتتعارض أصالة الطهارة في عصير «أ» مع أصالة الطهارة في عصير «ب» وتتساقطان وتصل النوبة لجريان أصالة الطهارة في الملاقي وهو الماء بلا معارض. فينحل العلم الاجمالي، لأنه لو أردنا ان نجري أصالة الطهارة في الملاقي وهو الماء في عرض جريانها في الطرف الآخر وهو عصير باء، فإما ان تجري أصالة الطهارة في الملاقي وهو الماء حال جريان أصالة الطهارة في عصير «ب» فهذا خلف الطولية، لأنه في ذلك الوقت اصلا لا موضوع لجريان أصالة الطهارة في الملاقي إذ المفروض جريانها في الملاقى، وما ان تجري أصالة الطهارة في الملاقي بعد سقوط أصالة الطهارة في «ب» لأجل المعارضة، فحينئذ لا معنى للمعارضة بينهما.
إذن لا يتصور معارضة بنظر الشيخ الاعظم بين أصالة الطهارة في الملاقي وبين أصالة الطهارة في الطرف الآخر. لأن أصالة الطهارة في الملاقي إنما تجري بعد سقوط أصالة الطهارة في الطرف الاخر بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقى.
هذا تمام ما افاده الشيخ الاعظم «قده» في «فرائد الاصول».
وقد اشكل جمع من الاعلام على هذا الجواب بإشكالات:
الإشكال الاول: ما ذكره السيد الامام «قده» في «تهذيب الاصول»: من ان دعوى الطولية بين أصالة الطهارة في الملاقي واصالة الطهارة في الملاقى مما لا وجه لها، والسر في ذلك:
أنه لم يقم دليل شرعي على ان ملاقي الطاهر طاهر، فقد يكون ملاقي الطاهر نجسا فحيث لا يوجد دليل شرعي يقول: ملاقي الطاهر طاهر، إذن ليست الطهارة في الملاقي متفرعة على أصالة الطهارة في الملاقى لا ربط بين الامرين كي يقال بأن أصالة الطهارة في الملاقي اصل طولي، واصالة الطهارة في الملاقى سابق رتبة بمثابة الموضوع للحكم، هذا مما لا معنى له، لأنه اساسا لا دليل على ان ملاقي الطاهر طاهر.
ولكن هذا المقدار من الاشكال واضح الدفع، لأن البحث ليس في تفرع طهارة الملاقي عن طهارة الملاقى. وإنما الكلام في الجانب السلبي لا في الجانب الإيجابي، أي ما ينفي نجاسة الملاقى ينفي نجاسة الملاقي، لا ان الغرض ما يثبت طهارة الملاقى يثبت طهارة الملاقي، أي حيث قام الدليل على أن ملاقي النجس متنجس إذن ما ينفي النجاسة في الملاقى ينفي النجاسة في الملاقي، هذا معنى الطولية بينهما، واما الأصل في الملاقى موضوع والاصل في الملاقي حكم، بلحاظ الجانب السلبي وهو نفي النجاسة.
وبناء على ذلك: فاذا جرت أصالة الطهارة في الملاقى انتفت أصالة الطهارة في الملاقي لأن الشك قد انتفى بعد ثبوت طهارة الملاقى بمعنى عدم نجاسته.
الاشكال الثاني: _وهو يبتني على بحث ذكر في أواخر بحث الاستصحاب «مسالة تقدم الاصول العملية على بعضها» _ فبحث: هل ان الأصل الموضوعي يتقدم على الأصل الحكمي؟ أم ان الملاك تقدم الأصل الذي يتعبد فيه بالعلم على الأصل الذي لا يتعبد فيه بالعلم؟ أم ان الملاك تقدم الأصل المخالف للنتيجة على الأصل المخالف له لا مطلقا؟ فهناك ثلاث مباني لتقدم الاصول على بعضها البعض:
المبنى الاول: كما يظهر من الشيخ الاعظم والمحقق النائيني «قدهما»: بأن المسألة هي مسألة موضوعي وحكمي، متى ما كان أحد الاصلين بمثابة الموضوع للاصل الاخر أي ان الأصل الآخر متفرع على الاول كان الاول متقدما عليه رافعا لموضوعه، سواء كانا متحدين في النتيجة أو مختلفين، سواء كان احدهما علما تعبدا كالاستصحاب أم لم يكن علما تعبدا كأصالة الطهارة، على أية حالة الموضوعي يقدم على الحكمي.
وبناء على هذا المبنى الذي ذهب إليه العلمان، يقال: أصالة الطهارة في الملاقى تتقدم رتبة على أصالة الطهارة في الملاقي أي انه إذا جرت أصالة الطهارة في الملاقى لا تصل النوبة لجريانها في الملاقي، بلحاظ أن أصالة الطهارة في الملاقى نقّحت الموضوع، فارتفع الشك في النجاسة في الملاقي، فلا معنى لجريان أصالة الطهارة فيه، فالمسالة مسالة موضوع وحكم.
المبنى الثاني: وهو الذي يظهر من سيدنا «قده»: إذا كان أحد الاصلين تعبدا للعلم كان رافعا للشك في الأصل الاخر، واما إذا لم يكن تعبدا للعلم فكيف يرفع الشك في الأصل الآخر؟. مثلا: إذا افترضنا ان الأصل الجاري في الملاقى استصحاب الطهارة، هنا يكون استصحاب في الملاقى رافعا لاصالة الطهارة في الملاقي، لأن الاستصحاب تعبد في العلم، لأن مفاد قوله: «لا تنقض اليقين بالشك وإنما انقضه بيقين مثله»: أن الاستصحاب يقين علم تعبدا، فإذا كان الاستصحاب علما تعبديا إذن لست شاكا في الملاقى، بل أنت عالم بطهارته، فاذا اصبحت عالما بطهارة الملاقى انتفى الشك في الملاقي، فلا ينتفي الشك في الملاقي إلّا إذا تعبدنا الشارع بأنك عالم بحالة الملاقى، هنا يكون الحكومة والرفع.
أمّا إذا كان الأصل الجاري في الملاقى هو أصالة الطهارة وليس استصحاب الطهارة، فمجرد ذلك لا يفيد، لأن أصالة الطهارة في الملاقى، تقول: الملاقى طاهر ظاهراً، لا اكثر من ذلك، لا انها تعتبرنا عالمين بالطهارة، والتعبد بالطهارة الظاهرية في الملاقى لا تنفي الشك في الملاقي، صحيح ان الشارع قال الملاقى طاهر ظاهراً، أما ما نفى شكنا في الملاقي، لعله في مقام الظاهر يفكك بين الملاقى والملاقي. إذن مجرد التعبد بطهارة الملاقى ظاهراً لا ينفي الشك في الملاقي ظاهراً.
فالحل: ان يكون الأصل في الملاقى تعبداً ف العلم حتى يكون الشك في الملاقي.
المبنى الثالث: ما ذهب إليه السيد الشهيد «قده»: من ان المدار لا على الموضوعية والحكمية وليس المدار على التعبد بالعلم، وإنما المدار على التعبد بالخلاف، أي ان يكون الاصلان متخالفين في النتيجة، فاذا كانا متوافقين فلا يفيد ان احدهما موضوعي والآخر حكمي، ولا يفيد أن أحدهما تعبد بالعلم والآخر ليس تعبداً. والسر في ذلك:
أننا إذا رجعنا لأدلة الاصول العلمية، وجدنا ان الرافع لها التعبد بالخلاف، فعندما يقال: «كل شيء لك نظيف حتى تعلم انه قذر»، إنما يرتفع الحكم بالنظافة إذا علمت بالقذارة، لا أن الحكم بالنظافة إذا علمت بالنظافة، لا يفيد إذا كانا متحدين بالنتيجة. وقال في دليل الاستصحاب: «لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين مثله». ولا يتصور النقض إلّا باليقين المخالف لا باليقين الموافق، إذن فأدلة الاصول العلمية ظاهرة في أن الرافع للأصل التعبد بالخلاف، لا مجرد ان الاضل الثاني موضوع أو ان الأصل الثاني تعبد بالعلم، بل لابد ان يكون تعبدا بالخلاف.
فبناء على مطلب السيد الشهيد: لا يكون أي طولية بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الطهارة في الملاقى، بل لا طولية بين أصالة الطهارة في الملاقي، واستصحاب الطهارة في الملاقى، ابدا لا توجد طولية، لانهما متوافقان في الحكم، فمع توافقهما في الحكم فإن أي اصل في الملاقى لا يرفع جريان الأصل في الملاقي ابداً. فلا طولية بهذا الاعتبار لا بالاعتبار الذي ذكره السيد الامام «قده»، ولذلك «لأجل مبنى السيد الشهيد»: في الثوب النجس لو غسلناه بماء مشكوك الطهارة وليست له حالة سابقة، ولم تكن للماء حالة سابقة؟. فهنا يقول: أصالة الطهارة حاكمة على استصحاب النجاسة في الثوب؛ لتخالفهما في النتيجة مع أنّ أصالة الطهارة ليست تعبدا في العلم لكن هي تعبد في الخلاف، فجريان أصالة الطهارة في الماء رافع لموضوع استصحاب النجاسة في الثوب.
بينما إذا اشترطنا على مبنى السيد الخوئي: أن لا يرتفع أصل إلّا بأصل فيه تعبد بالعلم. لا تكون أصالة الطهارة في الماء رافعة لاستصحاب النجاسة في الثوب، لأن أصالة الطهارة ليست تعبدا في العلم.
فتحصّل: أنّ الإشكال على الشيخ الاعظم «قده» بعدم الطولية يبتني على النكتة الثالثة للسيد الشهيد، فمن لا يقبلها لا يرد الإشكال.
الاشكال الثالث: ما ذكره جمع من الاعلام منهم سيد المنتقى والسيد الشهيد والسيد «قده» والأستاذ «دام ظله»: من انه الطولية بين الأصل في الملاقي والاصل في الملاقى لا تعني الطولية بين الأصل في الملاقي والأصل في الطرف الآخر وهو «ب». بمعنى انه إذا علمنا اجمالا اما بنجاسة عصير الرمان أو نجاسة عصير التفاح، وقد لاقى الماء الذي بين ايدينا عصير الرمان فأصالة الطهارة في الماء متأخرة رتبة على بعض المباني عن أصالة الطهارة عن عصير الرمان الملاقى، لكن هذا لا يعني ان أصالة الطهارة في الماء متأخرة رتبة عن أصالة الطهارة في عصير التفاح في الطرف الثاني، لأن الطولية تحتاج إلى ملاك يقتضيها، وهذا الملاك موجود بين الملاقى والملاقي، لأن نجاسة الملاقي متفرعة على نجاسة الملاقى، لكن هذا الملاك ليس موجود بين الطرف الثاني وهو عصير التفاح وبين الملاقي، إذ لا يوجد مقتضي للطولية بينهما، ومساوي المساوي ليس متقدما، صحيح ان أصالة الطهارة في عصير التفاح مساوية لأصالة الطهارة في عصير الرمان، واصالة الطهارة في عصير الرمان متقدم رتبة على أصالة الطهارة في الماء، فأصالة الطهارة في عصير التفاح مساوية للمتقدم رتبة، لكن مساوي المتقدم رتبة ليس متقدما رتبة على الملاقي.
فالنتيجة: حيث لا طولية بين أصالة الطهارة في الماء واصالة الطهارة في عصير التفاح، إذن المعارضة مستقرة. نقول: أصالة الطهارة في عصير التفاح معارضة لأصلين، اصل في الملاقى وهو عصير الرمان، وأصل في الملاقي وهو الماء، فهي معارضة لهذين الاصلين في عرض واحد وان كانا هذان الاصلان بينهما طولية.
الاشكال الرابع: ذكر المحقق العراقي في «نهاية الافكار، ج3، ص238»: «أن بعض أجلّة العصر أشكل على ذلك بكذا». وتبين ان المشكل السيد حيدر الصدر والد السيد الشهيد.
فوالده «قده» اشكل على هذا المطلب الوارد من قبل الشيخ الاعظم والمحقق النائيني «قده» بأن لازم هذا الكلام في بعض الموارد اثر لا يلتزم به الفقهاء جميعاً.
بيان ذلك: وهو أنه: إذا علمنا اجمالا إما بنجاسة عصير «أ» أو عصير «ب» ولاقى الماء المطلق عصير «أ» فهنا قال السيد حيدر: بناء على مبنى الشيخ الاعظم ومبنى الشيخ النائيني، تتعارض أصالة الطهارة في عصير «أ» مع عصير «ب» فتساقطا، في الملاقي وهو الماء وصلت النوبة لأصالة الطهارة لكن لا بلا معارض، لأنه في عصير «ب» وجد اصل اخر وهو أصالة الحل، لأننا نشك في طهارته فنشك في حلية شربه، وبما ان الحلية متفرعة على الطهارة إذن أصالة الطهارة متقدمة رتبة على أصالة الحل، فإذا سقطت أصالة الطهارة بالمعارضة تولدت أصالة الحل، فأصالة الطهارة في الملاقي وهو الماء معارضة بأصالة الحل في طرف «ب» تساقطا، وصلت النوبة لأصالة الحل وهو الماء، والنتيجة: انه يجوز شربه لكن لا يجوز الوضوء به، يجوز شربه لأصالة الحل، لكن لا يجوز الوضوء به لأن جواز الوضوء فرع جريان أصالة الطهارة، والمفروض أن أصالة الطهارة فيه قد سقطت بالمعارضة مع أصالة الحل في «ب».
إذن لازم هذا المبنى من قبل العلمين «قده» الالتزام باثر لا يلتزم به أحد من الفقهاء، فيقال: تعارضت أصالة الطهارة في عصير «أ» مع أصالة الطهارة في عصير «ب» تساقطا، وصلت النوبة إلى أصالة الطهارة في الماء تتعارض مع أصالة الحل في عصير «ب» تساقطا، وصلت النوبة في الماء إلى أصالة الحل ومقتضى أصالة الحل فيه بلا معارض جواز شربه مع عدم جواز الوضوء به وهذا لا يلتزم به احد.
إلّا أن يقال: إن المؤثّر في صحة الوضوء مانعية النجاسة لا شرطية الطهارة، تارة نقول: يعتبر في صحة الوضوء طهارة الماء، إذن لابد ان نحرز طهارة الماء، والمحرز له هو أصالة الطهارة، وحيث سقطت بالمعارضة فلا محرز لطهاة الماء فلا يصح الوضوء. وتارة نقول: ليس الحكم الشرعي هو اشتراط طهارة الماء، وانما الحكم الشرعي مانعية نجاسة الماء، إذن بالنتيجة ما يرد كلام السيد حيدر، بل يقال: تجري أصالة الحل في الماء فيجوز شربه، وتجري فيه البراءة عن مانعية الوضوء به، لأنه لو كان نجسا لكان مانعا من صحة الوضوء، فتجري البراءة عن مانعيته كما تجي أصالة الحل بالنسبة إليه فكما يجوز شربه يجوز الوضوء به. فتأمل وتدبر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo