< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه - کتاب الحج

آیة الله مکارم الشيرازي

32/11/25

بسم الله الرحمن الرحیم

  دحو الأرض
  إن اليوم الخامس و العشرين من ذي القعدة يعرف بيوم دحو الأرض و قد وردت أعمال خاصة لهذا اليوم قد ذكرت من محالها؛ و مما ذكر عن هذا اليوم هو أن الدعاء فيه مستجاب.
  إن كلمة "دحو الأرض" تعني بسط الأرض و توسعتها من تحت الكعبة. لإيضاح ذلك لابد من الإعتماد على معطيات العلوم الحديثة، فحسب هذه العلوم كانت الأرض كرة نارية بردت رويدا رويدا إلا إن كميات هائلة من البخار كانت منتشرة في فضاء الأرض غير أنه تحول إلى المطر بفضل موجات البرد التي كانت تجتاح الجو، فكان البخار يتبدل إلى قطرات مطر غزير يجري على الأرض سيولا و مع ذلك كان بفعل حرارة الارض يتصاعد بخارا لأن أطراف الأرض كانت في أعلى درجات الحرارة و لكن كانت موجات البرد تجتاحه ثانية فيسقط مطرا أو يجري على الأرض سيولا، و هكذا دواليك حتى بردت الأرض فإستقرت المياه على سطحها، و قد كانت تغطي الأرض من أقصاها إلى أقصاها، و بسبب وجود حفر عظيمة و أخاديد عميقة إستقرت المياه فيها شيئا فشيئا فظهرت البحار و المحيطات و إنكشفت اليابسة على ما نراه.
  و نحن نؤمن أن مكة كانت أول موضع إنكشف من يابسة الأرض و أول نقطة إنكشف من مكة هي الموضع الذي إستقرت عليه الكعبة المشرفة، فمذ ذاك توسع الموضع شيئا فشيئا حتى إستقرت اليابسة على ما عليه الأن حيث أنها تمثل ربع الأرض و ثلاثة أرباع الأرض الأخرى تغطيها المياه.
  و ما ينبغي التنبيه عليه هو أن العبادات التي وردت بهذه المناسبة هي تعبير عن شكر الباري جلّ و علا لهذه النعمة الفضيلة فتقول الأية المباركة: "وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً" [1] و هي تعني أن الله سبحانه قد جعل الأرض موضعا لعيشكم و هذا يدل على أن أول موضع أعدّ للإنسان ليعيش فيه قد أنشىء في مثل هذا اليوم!
  عنوان البحث: إمساك الأنف من الرائحة النتنة
  كان البحث في المسألة الثالثة عشرة من مسائل الطيب و كان الفرع الأول عما لو إضطر المحرم إلى أكل الغذاء العطر أو لبس الثياب المعطرة ففي هذه الحال يجب عليه أن يمسك على أنفه لأن الضرورات تقدر بقدرها و ذلك بناء على حرمة إستعمال الطيب و شمه و إستشمامه. و لا خلاف في هذه المسألة بين الفقهاء بل تعد من المسلمات.
  و أما الفرع الثاني و هو قوله: "و لا يجوز إمساك أنفه من الرائحة الخبيثة، نعم يجوز الفرار منها و التنحي عنها" فقد تطرق إليه الفقهاء كما سنشير في ما يلي.
  الأقوال:
  إن المسألة مشهورة بين الفقهاء و قد نقل صاحب الجواهر عن إبن زهرة عدم الخلاف فيها.
  الأدلة:
  قد دلت الروايات على ذلك و هو أمر تعبدي لا سبيل لنا في كشف السبب فيه:
  "مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَلَبِيِّ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ جَمِيعاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ الْمُحْرِمُ يُمْسِكُ عَلَى أَنْفِهِ مِنَ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ وَ لَا يُمْسِكُ عَلَى أَنْفِهِ مِنَ الرِّيحِ الْخَبِيثَةِ" [2]
  إن الرواية قد وردت بأربع طرق، إثنان منها في صدر الرواية و إثنان أخران أضافهما صاحب الوسائل في ذيلها و بما أن الرواية تتعدد بتعدد طرق النقل فتصبح هذه الرواية أربع روايات.
  و أما دلالة فالرواية نهت عن الأخذ بالأنف حال تعرض الشخص إلى الروائح النتنة.
  "وَ بِالْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَ صَفْوَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ لَا تَمَسَّ شَيْئاً مِنَ الطِّيبِ فِي إِحْرَامِكَ وَ أَمْسِكْ عَلَى أَنْفِكَ مِنَ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ (وَ لَا تُمْسِكْ عَلَيْهِ مِنَ‌ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ) الْحَدِيث‌" [3]
  الرواية صحيحة سندا و واضح دلالة حيث إنها تنهى عن إمساك الأنف عن الرائحة النتنة.
  "وَ عَنْهُ عَنْ صَفْوَانَ وَ النَّضْرِ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ الْمُحْرِمُ إِذَا مَرَّ عَلَى جِيفَةٍ فَلَا يُمْسِكْ عَلَى أَنْفِهِ" [4]
  هذه الرواية صحيحة أيضا و واضحة دلالة في النهي عن إمساك الأنف عند إنتشار الروائح النتنة.
  "وَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنْ صَفْوَانَ وَ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السّلام قَالَ لَا تَمَسَّ شَيْئاً مِنَ الطِّيبِ وَ لَا مِنَ الدُّهْنِ فِي إِحْرَامِكَ وَ اتَّقِ الطِّيبَ فِي طَعَامِكَ وَ أَمْسِكْ عَلَى أَنْفِكَ مِنَ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ (وَ لَا تُمْسِكْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ) فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ" [5]
  و هي تطابق الرواية (2-24) مع إضافات لم تتضمنها الرواية السابقة و قد ورد مثل هذا المعنى في الرواية الثامنة من هذا الباب.
  شبهة و ردّها
  هناك في علم الأصول قاعدة تفيد أن الأمر بعد الحظر أو توهمه لا يدل على الوجوب، كما هو الحال في حرمة الصيد على المحرم مادام محرما حيث تقول الأية: "وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا" [6] ، فبما أنه يحرم الصيد على المحرم حتى بعد الخروج من حالة الإحرام، فالأية تأمر "وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا" إلا أن الأمر بالإصطياد لا يفيد الوجوب لأنه ورد لرفع توهم الحظر لا أكثر. فهنا قرينة و هذه القرينة تمنع من ظهور الأمر في الوجوب. و هذا الأسلوب من التعبير متداول بين الناس كما لو قال المولى لعبده لا تنم و راقب الأوضاع و لكن عندما تزول الشمس فإذهب و نم! هذا الأمر ليس بمعنى وجوب النوم بل بمعنى أنت في حل مني فإفعل ما شئت.
  هذه القاعدة تصدق عكسا أيضا لأن النهي في مقام توهم الأمر لا يدل على الحرمة فمثلا لو قال المولى صم واحدا و ثلاثين يوما على التوالي ثم قال لا تلتزم بتوالي الأيام بعد الواحد و الثلاثين فإن هذا النهي لا يدل على حرمة التوالي، غاية ما يدل عليه هو أن وجوب التوالي قد إنتهى فيجوز أن لا تأتي بالصيام على متواليا.
  بعد هذه الإضائة عن أصل القاعدة نقول:
  قد يتوهم أحد في ما نحن فيه بأن المولى أمر بإمساك الأنف عن شم الروائح الطيبة ثم نهى فقال: "وَ لَا تُمْسِكْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّائِحَةِ الْمُنْتِنَةِ" فإنه قد يقال أن هذا النهي في مقام توهم الأمر، فالأمر هنا لا يفيد إلا الجواز!
  لو صحت القاعدة هنا لفقدت الروايات مفعولها في الدلالة على الحرمة إلا رواية واحدة! إذا لا يجب الإمساك فالنهي ظاهر في الجواز، و الإحتمال في المقام يكفي.
  و يرد عليه: إن متعلق الأمر غير متعلق النهي خلافا لما تقدم في مثال الصيد و التوالي في الصوم حيث أن المتعلق واحد و إنما الفرق كان في ظرفي الأمر و النهي خلافا لما نحن فيه فإن متعلق الأمر هو الرائحة الطيبة و متعلق النهي هو الرائحة النتنة فلا معنى لتوهم الأمر و لذلك أن الأصحاب قد فهموا من النهي في المقام الحرمة لا الإباحة.
  أضف إلى ذلك أن في رواية إبن سنان (3-24) لم يرد أمر و ما ورد فهو النهي فحسب فالإمام يقول: "الْمُحْرِمُ إِذَا مَرَّ عَلَى جِيفَةٍ فَلَا يُمْسِكْ عَلَى أَنْفِهِ" [7]


[1] نوح (71): 19
[2] الوسائل/ ج 12 (ط الحديثة). أبواب تروك الإحرام. باب 24. ح 1
[3] المصدر/ ح 2
[4] المصدر/ ح 3
[5] المصدر/ باب 18. ح 5
[6] مائده (5): 2
[7] الوسائل/ ج 12 (ط الحديثة). أبواب تروك الإحرام. باب 24. ح 3

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo