< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/01/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ماهية المال/ كتاب الضمان/ الدرس الخامس عشر

 

لا زال الحديث عن الضمان وعن المسائل الفرعية التي أوردها السيد الطباطبائي قدس سره، وفيما يلي نورد بعض المسائل الفرعية الأخرى.

ماهية المال

ما هو المال؟ وهل مالية المال تكون بتشخصه أم بقيمته؟

ربما كانت الأمور سابقاً غير واضحة فيما يرتبط بقيمة الأشياء، لذلك كانت قيمة البضاعة متغيرة بحسب ما يعملون في سوق، فيعرض مالك البضاعة بضاعته وينتظر التقييم من الآخرين.

أما اليوم فأغلب الأشياء حصلت على قيمتها المحددة، وتحدد القيمة السوقية للشيء بعشرات بل مئات العوامل المختلفة، فالنفط مثلاً، يتبدل سعره بعوامل مختلفة جداً، وربما هناك ملايين من البشر يساهمون في تحديد قيمة المعادن الثمينة، سواء المنطبعة أو غير المنطبعة كالنفط والغاز والحديد والفولاذ وما أشبه.

فالأصل في الأشياء اختلف اليوم عن السابق، ففي السابق كان الأصل هو المثلية في البضاعة أما اليوم فصار الأصل القيمة أو المالية حسب التعبير الشائع، فقيمة الشيء هي الأهم لا ذاتها، وبذلك ينبغي أن نجدد النظر في قضية المال وماليته.

ومن المسائل التي ينبغي دراستها في هذا المجال دراسة موضوع سقوط العملات، ففي السابق أفتى بعض الفقهاء بأن العقد يجب الوفاء به بحسب ما اتفق عليه حتى لو تغيرت قيمة المبلغ المتفق عليه، فلو استأجر داراً بمائة دينار وسقطت قيمة الدينار فصارت قيمتها كمائة فلس، قال الفقهاء بالبقاء على نفس المبلغ الأول، وكذا مهر الزوجة، فمهرها قبل ثلاثة عقود كان خمسون ديناراً، وكان بالإمكان شراء مقدار كبير من الذهب به، أما اليوم فالخمسون لا قيمة لها سوقياً، فهل هذه الأمور والمعاملات نحسبها بحساباتها الشخصانية أو الذاتية أم نحسبها بمسائلها الإعتبارية والقيمية؟

في مسألة الضمان كما في مسألة الحوالة والمسائل المشابهة كالدين وما أشبه، تتكرر هذه المسائل، بأن لو كان الضامن قد ضمن بألف دينار فسقطت العملة بحيث صارت قيمة الألف دينار ربع قيمته وقت الدين، فكيف يؤدي للمضمون له، أو كيف يدفع المضمون عنه للضامن؟

كذلك اليوم الحوالة إذا أراد تحويل مبلغ مليون دينار إلى لندن مثلاً، ما الذي يحوله؟ هل يحول أوراق أم ذهب أم ماذا؟ طبعاً لا، إنما يحول قيمة هذا، والقيمة تتبدل حسب الإعتبار.

ومن هنا؛ ينبغي علينا أن نجدد النظر في مثل هذه المسائل، في مسألة الربا مثلاً، أو مسألة الخمس، وقد كتبت في تعليقتي على العروة، في مسألة خمس الزائد على قيمة البيت المخمس، ما نصه: "إذا كانت القيمة المرتفعة حقيقية، أما إذا كانت اسمية كما إذا ارتفعت بالتضخم فلا"[1] ، فالمهم هي القيمة الحقيقية لا القيمة الإسمية أو الورقية، فالمليون إذا صار ورقياً مليونين، ولكن في الواقع ليس للمليونين قيمة المليون، فهذا لا يعد إرتفاعاً وربحاً جديداً، فلا خمس عليه، بخلاف بعض الفقهاء الذي أوجبوا الخمس في الزائد من قيمة البيت مطلقاً، ونقول كما قلنا: ينظر فإذا كانت قيمة البيت زائدة ففيه الخمس، أما إذا لم تزداد قيمة البيت، بل سقطت قيمة العملة ففي مثل هذه الحالة لا خمس.

وبحث التضخم بحث مهم لابد من دراسة معدله في كل بلد، حينما نريد أن نأخذ حق شرعي من شخص لمعرفة المقدار الحقيقي للربح الذي حصل عليه خلال السنة، فإذا كان رأس ماله المخمس مائة مليون، واضيف إليه في هذه السنة عشرين مليون، ولكن حقيقةً العشرين مليون ليست إضافة للرأس مال بل هي بسبب إنخفاض قيمة العملة والتضخم، ففي مثل هذه الحالة لا نحتسب مقدار العملة، بل نحسب القيمة السوقية لها.

وفي مباحث الضمان يجري البحث ذاته، فلو ضمن الضامن مقداراً من المال للمضمون له، وسقطت العملة في هذه الفترة، فقد تسقط العملة بين عشية وضحاها سقوطاً فاحشاً لسبب من الأسباب، كما سقطت العملة المصرية قبل أيام ومن قبلها العملة الإيرانية والعراقية واليونانية وغيرها، فيجب أن تؤخذ هذه الأسباب بعين الإعتبار، فلابد للضامن أن يعطي القيمة الحقيقية للدين الذي كان بذمته لا الإسمية.

وهذه المسألة ترتبط بالمسألة التي ذكرناها يوم أمس بحصول الزيادة في مبلغ الضمان أو نقيصة.

 

الدفع بغير جنس الدين

لو إتفق الضامن مع المضمون له بدفع مال الدين بغير جنسه الذي على المضمون عنه، فإن أراد الضامن الرجوع على المضمون عنه هل له أن يطالبه بالأداء بالجنس الذي دفعه للمضمون له، أم ليس له سوى الثمن بجنس الدين الأصلي؟

قالوا ليس له إلا بالجنس الأصلي، إلا إذا تراضى مع المضمون عنه، قال السيد اليزدي قدس سره في المسألة الحادية والعشرين: "يجوز الضمان بغير جنس الدين‌ كما يجوز الوفاء بغير الجنس و ليس له أن يرجع على المضمون عنه إلا بالجنس الذي عليه إلا برضاه‌"[2] .

فلو دفع الضامن فرساً بدل البغل ــ مثلاً ــ فلا يأخذ من المضون عنه إلا بما كان في ذمته، إلا اللهم أن يتراضى الضامن مع المضون عنه.

 

الضمان بشرط الرهن

يجوز الضمان بشرط الرهانة، فلو اشترط المضمون له لقبوله ضمان الضامن أن يرهن له شيئاً، جاز ذلك، فأي دين يجوز أن يستوثقه صاحب المال بالرهن.

وهناك بحثٌ في العقود يمسى بـ(عقد النتيجة)، وذلك بتحويل العقد الواحد إلى عقدين أو أكثر، كأن يقول المضمون له للضامن، أقبل الضمان شريطة أن يكون دارك رهناً، فما هو حكمه؟

قسمٌ من الفقهاء لم يمضِ عقد النتيجة، مستدلاً على ذلك بحاجة كل عقدٍ إلى صيغة مستقلة، وأجابهم آخرون بممنوعية الإستدلال، فما المانع من عقدٍ واحد فيه عقودٌ مختلفة إذا أقرّه العرف وقال بصحته؟ فمادام العرف تعارف عليه فلابد من الوفاء به لأنه مشمولٌ بقوله سبحانه: ﴿أوفوا بالعقود[3] ، الا فيما اشترط الشارع بالنسبة إلى النتيجة شروطاً خاصة، كما في عقد النكاح، فلا يجوز أن يقول المضون له أقبل الضمان بشرط أن تصير إبنتك زوجتي، إذ لابد أن يكون بعقدٍ وصيغة خاصّة فلا يمكن أن يتم كنتيجة لعقد الضمان، وكذا الطلاق، وكذا بعض العقود الأخرى.

وبكلمة: إذا كانت هناك أدلة تدل على وجوب بعض الشروط الإضافية فلا يصح عقد النتيجة، والا جاز، وفي الضمان لا حاجة إلى تعاقد جديد من أجل استيثاق الدين بالرهن، فيمكن أن يكون شرط نتيجة، ومن هنا قال السيد الطباطبائي قدس سره في المسألة الثانية والعشرين: "يجوز الضمان بشرط الرهانة فيرهن بعد الضمان‌بل الظاهر جواز اشتراط كون الملك الفلاني رهنا بنحو شرط النتيجة في ضمن عقد الضمان‌"[4] . فكما قلنا أن عقد النتيجة يمثل عقدين في عقدٍ واحد وربما يمثل عقود متعددة في عقد واحد، فهناك بعض التعاقدات الدولية بين دول مختلفة ضمن إطار عقدٍ واحد، فهي بنتيجة الحال عقود يمكن تفصيلها تفصيلاً أو نجملها بإطار واحد وكلاهما صحيح ما لم يرد نهيٌ فيه من قبل الشارع المقدس.

 

الضمان وبطلان الرهن السابق

من المسائل في باب الضمان هي ما لو كان الدين مستوثقاً برهن، فضمن الضامن المضمون عنه، هل ينفك الرهن في هذه الحالة بالضمان بصورة طبيعية؟ بإعتبار أن الرهن كان للإستيثاق وجاء الضامن وهو نوع استيثاق للدين وكأنه وثيقه للوفاء من خلال وضع إعتباره في البين.

قالوا لا ينفك الرهن، بل الضمان هو زيادة استيثاق للدين، قال السيد الطباطبائي في المسألة الثالثة والعشرين: "إذا كان على الدين الذي على المضمون عنه رهن فهل ينفك بالضمان أو لا‌ يظهر من المسالك و الجواهر انفكاكه لأنه بمنزلة الوفاء لكنه لا يخلو عن إشكال"[5] .

استدل الشهيد الثاني وصاحب الجواهر قدس سرهما على الإنفكاك بتبدل العقد، بتحول الدين إلى ذمة الضامن فلا معنى للرهن، إلا أن السيد اليزدي استشكل في ذلك، فبالرغم من تحول الذمة إلى الضامن لكن علاقة المضمون معه لم تنفك مع الدين، والمضمون له يبقى متشبثاً بالرهن لاستيثاق المال.

هذا كله مع الإطلاق في العقد، أما لو اشترط الضامن ذلك أو كان العرف السائد على ذلك فعليه المعتمد، ومن هنا قال السيد قدس سره: "هذا‌ مع الإطلاق و أما مع اشتراط البقاء أو عدمه فهو المتبع‌"[6] .

ولدينا هنا تعليقة على كلام السيد صاحب العروة:

إن هذا الكلام صحيح ولكن ليت السيد قدس سره قال ذلك في كل مسائل الباب، فالعقود تابعةٌ للقصود والقصود في بعض الأحيان تابعة للأعراف، إذ لا وقت للجميع لتبيين الشروط في كل عقد، فيعتمدون على عرفٍ سائدٍ يسيرون عليه، حتى النكاح الذي هو من أدق العقود، قال الفقهاء بالإعتماد على العرف، كأن يرى العرف أن مهر الزوجة يشترى به جهاز المنزل، أو يشترط العرف في التزويج بكارة الفتاة، فحتى لو لم يذكر الطرفان هذه الشروط كانت معتمدة.

وعلى ذلك نرى كثير من المسائل التي يبينها الفقهاء، إنما هي بيانٌ للأعراف المتداولة في زمانهم، ولذلك نحن نضيف إلى قول الفقيه الطباطبائي: "وأما مع اشتراط البقاء أو عدمه" نضيف "العرف السائد" فأحياناً الإطلاق يفيد الإنفكاك لا البقاء.

 

اشتراط الضمان في مال معين

هل يجوز إشتراط الضمان في مال معيّن أو لا؟ كأن يشترط المضمون له أن يدفع له الضامن بستاناً له أو بيته، فاشترط أن يكون الأداء من مال معين.

يجوز ذلك بالتأكيد، فالمؤمنون عند شروطهم، وهذا التزامٌ في التزام والذي يعبّر عنه في الإصطلاح الحديث بالإلتزام بإعتباره شرط مرتبط بالإلتزام.

فلو اشترط المضمون له أن يؤدي له ما عليه بسيارته أو الدار، فتلفت السيارة وانهدم الدار، قال السيد بفساد الضمان كلياً.

وهنا لدينا بحثٌ عن الشروط – كما بينّاه سابقاً – بأن الشروط نوعان، شروطٌ تعتبر ركن المعاملة، وبإنتفائها تنتفي المعاملة كليّاً، وهناك شروط هامشية يعني يشترط المتعاقدان شرطاً آخر بالإضافة إلى أصل الضمان، وفيما لم يستطع بذلك الشرط الآخر يرجعان إلى الخيار.

فقول صاحب العروة[7] بفساد الضمان متجهٌ فيما إذا كان الشرط ركناً وأساساً في العقد، وفي غير هذه الحالة كان للمضمون له الخيار في أن يستمر بالضمان أو لايستمر إلا مع الأرش مثلاً، وهذا البحث سيّال في أغلب المعاملات.

بقي أن الضامن في حال اداءه البيت كان يحصل على المليون، اما بعد تلفه فسيحصل على الأقل من ذلك، فالأساس في المعاملات عند الناس – لا أقل هذه الأيام – إلا ما استثني، يعتمد على القيمة السوقية، وبعض الأحيان فقط يعتمد على تشخص الشيء، فالناس مثلاً يشترون اجهزة الجوال، فلا يعتمدون على الفرد، بل يعتمد على هذا النوع بإعتبار المصنع واحد، إلا اذا كانت هناك خصوصيات منظورة، والله العالم.

 


[7] في المسألة الرابعة والعشرين. [ المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo