< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/02/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ضمان النفقة /كتاب الضمان

 

ضمان النفقة

هل يجوز أن يقوم الضامن بضمان نفقة الزوجة، أو نفقة الأقارب بأن يقول الأب لحليلة إبنه: أنا ضامن نفقتكِ إن لم ينفق زوجك عليك أو يقوم شخص بضمان نفقة الوالدين عن ولدهما، أو لا يجوز ذلك؟

هناك بحوثٌ تمهيدية لابد من بيانها قبل أن نقرأ ما كتبه صاحب العروة قدس سره.

المسألة الأولى: هل النفقة هي ملكٌ للمنفَق عليه، وبالتالي تتحول إلى دين إن لم يؤدها المنفِق في وقتها، أم هي من الواجبات الفورية التي تفوت بفوات وقتها، بحيث لو لم ينفق المنفق وقت الحاجة لفوّت عليه الواجب فقط؟

قالوا: نفقة الزوجة ملكٌ لها، فلو لم ينفق عليها الزوج يكون ديناً بذمته، بينما نفقة الأقارب فليست كذلك، فتفوت بفوات وقتها ولا تتحول إلى ذمته بعنوان الدين، كما لو كان الواجب على المكلّف إنقاذ الغريق ولم ينقذه فقد ارتكب إثماً ولا يتعلق بذمته شيئ.

وقال بعض الفقهاء بعدم الفرق بين نفقة الزوجة ونفقة الوالدين، والأصل في كل واجب ماليٌ هو إمتلاك صاحبه له، وبعدم الأداء يتحول إلى دين بذمة المقابل.

أما الأصل هو كون النفقة واجبٌ فوري، أما أن يتحول مال النفقة إلى دين على المنفق فهو بحاجة إلى دليل إضافي، إذ عليه أن يؤدي في آن الوجوب والحاجة، وبتفويته فنحن بحاجة إلى دليلٍ يوجب عليه الأداء مستقبلاً على نحو وفاء الدين، إلا اللهم أن نقول بأن ظاهر أدلة الإنفاق أو ظاهر كل ما يرتبط بالأمور المالية هي تحولها إلى الذمة على نحو الدين مع عدم الوفاء في آن الوجوب، وبذلك نستطيع إعتبار النفقة الفائته ديناً، ومع عدم إثبات ذلك فالأمر مشكل.

الأشهر عند الفقهاء بل المشهور، بل ادعي عليه الأجماع أن غير نفقة الزوجة، هي نفقة فورية في آن الوجوب، ومثله مثل تغسيل الميت فإذا جاء سيل وجرف الميت فلا محل للوجوب.

وذهب صاحب الجواهر إلى أن الظاهر من أدلة الإنفاق تحول النفقة إلى دين، لأن الأصل في كل مال يقتضي تحول إلى حقٍ في الذمة، لكن السيد المرجع الحكيم[1] قدس سره استشكل على ذلك واعتمد على رواية سنذكرها مستفيداً منها أن النفقة واجبة لحفظ النفس فقط وليست

 

واجبة بعنوان الدين على المنفق.

أما الرواية التي أستند عليها السيد المرجع الحكيم فهي خبر حريز: قلت لأبي عبد اللّه (ع): من الذي أجبر عليه و تلزمني نفقته؟ فقال: "الوالدان و الولد و الزوجة"[2] .

وبهذه الرواية استدل السيد على أن النفقة لا تكون ديناً لأنها لا تدل على التمليك، بل على التكليف ببذل النفقة[3] .

وعلى أي حالٍ فالرواية ليست ناظرة إلى تحول النفقة إلى دين يطالب بها صاحبها مستقبلاً، كما لا تدل على العكس.

وحتى الآن، نحن ما استطعنا أن نثبت وجوب النفقة أنه من قبيل الواجبات المالية الأخرى، أما القاعدة التي اعتمدها البعض من أن الأصل في الواجبات المالية كونها ملزمة حتى بعد فقدان الشخص أو فوات الأوان، لم يدل دليل عليها، فلا نعرف لهذا الأصل أصلا، بل هو ظاهرٌ ويرجع على مدعيه، ونحن نعلم أن أساس النفقات على قسمين، منها ملزمة وواجبة كنفقة الزوجة، ومنها ملزمة ولكن لا يطالب بها المكلف بعد فوات المحل كالنفقة على البهائم، فبموت البهيمة التي لم ينفق عليها لا يلزم مالكها ببذل بدلٍ عنها وفاقا.

وأساساً فإن الواجبات على نوعين منها ما يرتبط بالأمور الآنية العاجلة التي تفوت بفوات وقتها، ومنها ما تبقى بذمة المكلف، وقد تكون بعض الواجبات بحيث تسقط كلياً، كالصلح بين فئتين من المؤمنين حيث يسقط به الديات والدماء بينهما، أو الإسلام الذي يجب ما قبله.

وكذلك يمكن أن تكون نفقات الأقارب حيث تفوت بفوات وقت وجوبها، أما أن نقول بأن الأصل في كل واجب مالي أن يكون لازماً بذمة الإنسان فهو بحاجة إلى دليل لم نعثر عليه.

المسألة الثانية: قالوا بأن الزوجة إنما تجب نفقتها إذا كانت ممكّنة من نفسها، وبالتالي يجب نفقتها في حال التمكين السابق، أما في نفس اليوم هل تجب نفقتها أم لا، لإحتمال نشوزها في نفس اليوم وبإعتبار النشوز تسقط نفقتها، وبالتالي لا يمكن ضمان نفقة اليوم.

قال بعض الفقهاء بأن نفقة كل يومٍ بيومه، فإذا كانت ممكنة كان لها نفقتها وإلا فلا.

هذا عن يومها، ولكن السؤال عن ضمان نفقة الزوجة في المستقبل، كأن يقول الأب لزوجة إبنه أنا ضامنٌ نفقتكِ مستقبلاً إن لم ينفق عليك زوجكِ!

قال بعضٌ بعدم الجواز، لأنه ضمان ما لم يجب، ومادام الأمر كذلك فلا يصح الضمان.

وأجيب عنه بصحة ضمان ما لم يجب، إذ أن كثيراً من الضمانات العرفية هي على هذا النحو ولم يرد نهيٌ من قبل الشرع المقدس، فضلاً عن دلالة الآية في سورة يوسف على ذلك في قوله سبحانه: ﴿وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعيم‌[4] ، وقد مرّ البحث فيه سابقاً.

هذا مضافاً إلى أننا نرى في العرف أن مجرد وجود المقتضي من أي نوعٍ كان يكفي في صحة العلاقات المالية، ومثله ما نحن فيه، فإن الزوجة تستحق النفقة المستقبلية لإقتضاء الزوجية ذلك، حتى وإن لم يحن حينها، وهذا الأمر يسري في باب النفقة وباب الجعالة وفي أبواب أخرى، وإلى هذا الرأي يميل صاحب العروة قدس سره.

وفيما يلي نورد كلام صاحب العروة قدس سره حول المسائل السابقة، حيث قال في المسألة الخامسة والثلاثين: "يجوز ضمان لنفقة الماضية للزوجة‌ لأنها دين على الزوج"[5] وذلك باعتبار نفقتها ملكاً لها ومع عدم بذله يثبت في ذمة الزوج "و كذا نفقة اليوم الحاضر لها إذا كانت ممكنة في صبيحته"[6] حيث يعد التمكين في الصباح فإن كانت كذلك استحقت النفقة "لوجوبها عليه حينئذ و إن لم تكن مستقرة لاحتمال نشوزها في أثناء النهار بناء على سقوطها بذلك" قيل بأن مجرد النشوز يؤدي إلى سقوط النفقة وإن كانت ممكّنة في بداية النهار.

وهنا بحثٌ جانبي لا بأس بإيراده مفاده: أن نفقة الزوجة ليس على نحو واحد، فالإنفاق على الزوجة يشمل تهيئة المسكن والملبس وكذا تهيئة الطعام، ولا يمكن أن يكون تهيئة المسكن بصورة يومية وكذلك نفقة الثياب، ومثلها الدواء، بل إن الإنفاق اليومي أمرٌ نادر الحدوث[7] ، فقولنا على الزوج أن ينفق على زوجته فإن وجوبه يتحدد بالعرف وحسب الظروف المتغيرة وحسب نوعية النفقة.

فالإنفاق المأمور يكون من وجد المكلف، وهو يعني مثل الإنفاق على نفسه، فإدخال التمكين اليومي في الأمر قد يخل حتى بالعلاقة الطيبة بين الزوجين.

النفقة المستقبلية للزوجة

ومن ثم قال السيد قدس سره حول نفقتها المستقبلية: "وأما النفقة المستقبلة فلا يجوز ضمانها عندهم لأنه من ضمان ما لم يجب (والفقهاء قالوا بعدم صحته بينما مال السيد صاحب العروة إلى جواز وصحة هذا النوع من الضمان، وذلك بقوله:)[8] و لكن لا يبعد صحته لكفاية وجود المقتضي و هو الزوجية"[9] لأنه على نحو الوجوب الإقتضائي فمقتضى العلاقة الزوجية ذلك، فإذاً يجوز ضمان النفقة، وذكرناً أن مثل هذا الأمر كثير عند العرف إن كان هناك مقتضي.

 

نفقة الأقارب الماضية

وعن نفقة الأقارب قال السيد قدس سره: "وأما نفقة الأقارب فلا يجوز ضمانها بالنسبة إلى ما مضى لعدم كونها دينا على من كانت عليه" فعدم الجواز متجهٌ عند السيد، وذكرنا أن صاحب الجواهر اشكل على هذا الرأي وذهب إلى عدم التفريق بين نفقة الزوجة ونفقة الأقارب في استقرارها، معللاً بأن الأصل في الواجبات المالية أن تكون ديناً لا مجرد تكاليف آنية تسقط بإنتهاء زمانها، إلا أن بعض الفقهاء كالمرجع السيد الحكيم أشكل على ذلك في مستمسكه كما مرّ.

ونحن نرى أن الأصل الذي أعتمده صاحب الجواهر غير ثابت، وبالتالي فضمان النفقة الماضية مشكل، ولكن يبدو أن العلامة الطباطبائي يبحث عن مخرج للمسألة، وفي المخرج كلام، والمخرج هو القول بأن يأمر المنفق مستحقها من أقاربه بإقتراض المال فيكون ديناً عليه ويضمنه على ذلك الدين ضامن، قال السيد قدس سره: "إلا إذا أذن للقريب أن يستقرض و ينفق على نفسه أو أذن له الحاكم في ذلك إذ حينئذ يكون دينا عليه".

والإشكال الذي أورده بعض الفقهاء على هذا المخرج هو أن هذا لا يعد ديناً ثابتاً على المنفق، بل هو وعدٌ وعده أياهم والوعد لا يجب الوفاء به، فبقوله "إقترض" أو إذنه بذلك وعده بالوفاء فقط لا أكثر.

ولكن نحن نعتقد أن هذا القول والإذن ليس من الوعد، وإنما هو عهدٌ والفرق بينهما عرفي، فلولا وجود هذا القول أو الإذن لما أقدم مستحق النفقة على الإستدانة، وبالتالي عليه الوفاء، وإن لم نقل بأنه عهد فإنه من باب التغرير بمستحق النفقة، والمغرور يرجع على من غرّه.

ونحن مع كلام السيد الطباطبائي بأن هذا يصبح ديناً على المنفق وبالتالي يجوز ضمان.

 

النفقة الأقارب المستقبلية

أما فيما يتعلق بنفقة الأقارب في المستقبل، كأن يقول الضامن للوالدين أو للأبناء (أنا ضامن نفقتكم إن لم ينفق عليكم المنفق)، فنقول مرة أخرى أن بعض الفقهاء لم يجيزه لأنه ضمان ما لم يجب، وفيه ما عرفت من صحة هذا الضمان لوجوه مقتضيه.

قال السيد اليزدي قدس سره: "وأما بالنسبة إلى ما سيأتي فمن ضمان ما لم يجب مضافا إلى أن وجوب الإنفاق حكم تكليفي و لا تكون النفقة في ذمته و لكن مع ذلك لا يخلو عن إشكال‌" وقد بينّا الإشكال، بأن هذا الضمان عرفي، والحكم التكليفي يتحول إلى حكم مالي إذا كان هناك عهدٌ وعقد بين المنفق وبين الأقارب، والله العالم.


[7] خصوصاً في زماننا الحاضر. [ المقرر].
[8] تعليق السيد الأستاذ دام ظله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo