< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: النزاع في الضمان/کتاب الضمان

 

في كتاب الضمان ــ كما في سائر أبواب الفقه ــ جملة من المباني لو عرفناها واعتمدناها فإن كثيراً من الأحكام المتصلة بذلك الباب يتيسر فهمها وكذلك يتيسر إرجاعها إلى مبانيها، وقد سبق وأن بينّا جملة من تلك المباني، واليوم نسعى للتعرض إلى المباني التي نعتمدها فيما يتصل بالخلافات والنزاعات، حيث أن الفقهاء قدس الله أسرار الماضين وحفظ الباقين، حين التعرض لبابٍ من الأبواب الفقهية يذكرون في نهايته أحكام الإختلاف في ذلك الباب، وكذلك في باب الضمان فقد يحدث نوع من الخلاف بين الأطراف وبأعتبار أن للضمان ثلاثة أطراف هم (الضامن والمضمون له والمضمون عنه) فقد تكون الخلافات بين بعضهم البعض.

وجملة القول في أمر النزاعات أن كل خلاف في حكم شرعي نعتمد فيه في البدء أصالة العدم، كما لو شك المكلف هل توضأ أم لا يبني على العدم، أو هل أوفى بالنذر فالأصل هو العدم، وهكذا في سائر الأمور، وحتى الإستصحاب الوجودي مرجعه إلى أصالة العدم، لأنه في الحقيقة أصل عدم الحادث، فبقاء ما كان على ما كان يعني عدم حدوثٍ جديدٍ غيّر ما كان، وهكذا يعتمد أصل البراءة والإستصحاب بل وكثير من الأصول الجانبية على أصالة العدم.

وأساس أصالة العدم عقلية، إذ يحكم العقل بلابدية علّة لكل حادثة وسبب، وبتعبير آخر لابد من وجود المقتضي لكل أمر، ومن دون العلة والسبب والمقتضي كيف للحدث أن يحدث؟ وبالشك في المقتضي فالأصل عدمه.

نعم؛ هناك حالات جاء الشرع بما يتنافى مع هذه الأصالة وذلك مثلاً في الصلاة، وبالذات عند الشك في عدد ركعاتها، حيث المبنى هناك هو البناء على الأكثر (لا الأقل الذي هو مفاد الاصل)[1] ، فمن شك بين الركعة الثانية والثالثة بعد إكمال السجدتين فبناءاً على أصالة العدم لابد له أن يبني على الأقل، ولكن الشارع يأمر هنا بالبناء على الأكثر، وكذلك بين الثلاث والأربع، ولعل السبب في ذلك أن الشارع يريد تصحيح الصلاة، باعتبار أن الفقيه لا يعيد الصلاة بل يحتال لها ليصححها كما في الحديث الشريف[2] ، ولو فرض أن يعيد المصلي صلاته بكل خلل لكان حرجاً على المكلفين.

ففي هذه الحالة عليه أن يبني على الأكثر ويصلي المشكوك بعد إكمال الصلاة بإتيان ركعات الأحتياط، والزائد يقع إما عوضاً وتكميلاً عما لو كان صلى الأقل واقعاً، وإما تقع نفلاً، وعادةً ما يتبين للمصلي بعد إنهائه للصلاة الواقع.

إذاً يكون البناء في الصلاة على الأكثر لا الأقل بهدف تصحيحها، ولما كان الهدف هو تصحيح الصلاة فلا يكون البناء على الأكثر دائماً، كما لو شك بين الأربع والخمس فإنه يبني على الأقل لأن البناء على الأكثر يؤدي إلى بطلان الصلاة، وتصحيح الصلاة يكون بالبناء على الأقل، وكذا يبني على أصالة العدم فيما لو شك بإتيان الركوع وهو في محله فيبني على عدم الركوع ويأتي به، وكذا التشهد قبل تجاوز محله.

وبالرغم من ذلك يبقى أصل العدم أصيل في الشرع المقدس ويعتمد في كثير من المسائل الفقهية، ومنها كتاب الضمان، فلو اختلف المضمون له مع الضامن[3] ، أو المضمون عنه مع الضامن في أي أمر فيبنى في حلّه على أصل الضمان، كما لو كان النزاع في أصل حدوث الضمان يبنى على أصل عدم الضمان.

ولو حدث الخلاف بينهما في الضمان بشروط جديدة أو بدونها، كما لو اختلفا (الضامن والمضون له) في قيد تأجيل الدين أو تعجيله، فالأصل هو عدم الشرط الجديد او القيد الإضافي.

وكذا العكس، فلو تحقق الضمان وحدث النزاع في دفع الضامن للمال، فالأصل هو عدم وفائه، وكذلك الأصل هو عدم الإذن فيما لو تنازع الضامن مع المضمون عنه في حدوث الضمان بإذن أو بصورة تبرعية.

وبكلمة، فكما يكون مرجع الشك إلى أصالة العدم، كذلك في النزاع بين المتخاصمين يكون أصل العدم مقدم، وبالتالي يقدم قول المنكر مع يمينه إلا أن تقوم البينة على الخلاف.

 

تزاحم أصلا العدم والصحة

لو حدث خلاف حول صحة الضمان أو عدم صحته، كما لو قال المضمون له للضامن إنه كان معسراً وقت الضمان وبالتالي يكون ضمانه باطلاً (في حال عدم علم المضمون له بالإعسار طبعاً)، فهنا يقدم أصل الصحة لا أصل العدم، إذ أن أصل العدم لا يقاوم أصل الصحة، كما لو صلى المكلف وشك في الأثناء في صحة الركوع أو الإتيان به بعد التجاوز فهنا يبني على أصل الصحة.

وهنا أيضاً، حصل الضمان، نعم؛ قد يكون باطلاً وقد يكون صحيحاً، ولكن بعد أن تم الضمان تنازعا في كون الضمان جامعاً لكل شروط الصحة بأن كان الضامن عاقلاً مختاراً قاصداً وموسراً أم لم يكن كذلك، فالأصل هنا ليس أصل العدم، بل أصل صحة عمل الإنسان، ويبدو لي أن هذا الأصل لا علاقة له بالمسلم وغير المسلم، بل إنه أصل عقلائي يعتمد عليه الناس جميعا، كما لو شك الإنسان – أي إنسان – في قيامه بمهته بصورة صحيحة أو عمله بالشكل المطلوب، فيبني على أصل الصحة، لأنه يعتمد على كونه أذكر أثناء العمل، فلا يعتد بالشك والوسوسة اللاحقة.

وقد يحصل نوع تعارض بين الإستصحاب وأصل الصحة، فمثلاً: لو علمنا بإعسار شخص ثم ضمن شخصاً، فلا ندري هل أيسر وقت الضمان أم ضمن وهو معسرٌ، فالإستصحاب يقتضي بقاءه على إعساره، لكن أصالة الصحة تحكم بأن عمل الرجل وقع صحيحاً، فأي الأصلين مقدمٌ؟ كما لو علمنا بحدث مكلف ثم رأيناه يصلي فالاستصحاب مع ببقاءه محدثاً بينما أصالة الصحة تقتضي تطهره للصلاة.

واختلف الفقهاء في هذا المجال في باب الضمان، فإذا كانت الحالة السابقة للضامن تستدعي عدم صحة ضمانه، كأن كان مجنوناً أو مكرهاً أو معسراً أو شبهه، ولكنه أوقع العقد فهل يحكم على حالته السابقة أو أنها تغيرت، فهنا اختلفوا في تقديم أي الأصلين.

وفي ظني أن الاستحصاب قد يقاوم أصالة الصحة وقد لا يقاوم بحسب المصداق المتزاحَم فيه، وفي رأيي لا يمكن لنا أن نقدم الإستصحاب بصورة عامة، لأن أصالة الصحة هي الواردة على الإستصحاب – في كثير من الأحيان – كمن يستيقظ من النوم ولكنه علم أنه صلى، فالاستصحاب يقول ببطلان الصلاة، ولكن أصالة الصحة[4] تقتضي أنه صلى بوضوء صحيح.

ففي ظني والله العالم – وكما سنبين لاحقاً بالتفصيل- انه لابد من دراسة كل مورد بمورده، فقد تكون القوة للإستصحاب في مورد بينما في الحالات العادية تكون القوة لأصالة الصحة.

ومن هنا، فأمامنا محاور ثلاثة لابد من بحثها في المقام وهي:

أولاً: أصالة العدم.

ثانياً: أصالة الصحة.

ثالثاً: فيما لو تعارض أصالة الصحة مع الإستصحاب (أصالة العدم).


[1] بين الهلالين من المقرر.
[2] عن أبي عبد الله عليه السلام : "مَا أَعَادَ الصَّلَاةَ فَقِيهٌ قَطُّ يَحْتَالُ‌ لَهَا وَ يُدَبِّرُهَا حَتَّى لَا يُعِيدَهَا". [تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة، ج2، ص351.]
[3] يورد سماحة السيد المرجع الاستاذ الأمثلة التالية بصورة مجملة، مؤجلاً الحديث عن الفروع بصورة مفصلة للبحوث القادمة. [المقرر].
[4] وهنا تعني علم الإنسان بنفسه أنه لا يصلي دون وضوء. [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo