< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/03/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: ماهية الحوالة/كتاب الحوالة

 

اختلاف الآراء في بعض الأحيان لا يعكس اختلاف الرؤى أو اختلاف الأدلة، بل قد يكون إنعكاساً لاختلاف المصاديق والسبب في ذلك هو طول عمر الفقه الذي يتجاوز ثلاثة عشر قرناً، والزمن يتحرك، كما أن الفقه ليس فقهاً لبلدٍ معين أو قوم بالخصوص، وإنما هو فقه يمتد أثره بإمتداد العالم الإسلامي.

ومن هنا؛ فإن اختلاف الفقهاء قد يكون بسبب معالجة كلٍ منهم لوضعٍ معين يختلف عن وضع الآخر، وهذا التفسير للآختلاف القائم بينهم ينفعنا في الجمع بين الأقوال الموجودة.

وما عن بعض المؤلفين في الفقه من محاولة لبيان الاختلافات الدقيقة بين رأي وآخر أمرٌ حسن من حيث كونه منهجاً علمياً دقيقاً، ولكن قد يدفعنا ذلك إلى فهمٍ خاطئ للآراء السابقة لدى الفقهاء، ولذلك نحن نؤكد على منهجية تسعى للجمع بين الآراء وتحاول إيجاد تكامل بين الآراء، الأمر الذي ينفعنا في أخذ رأي معين بعد معرفة إتجاهه ونكمل رأيه برأيٍ آخر ولدي على ذلك أمثلة كثيرة لا تقتصر على علم الفقه والأصول، وإنما تشمل أيضاً الفلسفة والمنطق و.. حيث حاولت أن اكتشف أحسن القول عند كل منهج وأجمعه مع ما لدى الآخر من نفس النوع، إتباعاً لقوله سبحانه: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ[1] .

وبالنسبة إلى باب الحوالة، هناك مصاديق مختلفة للحوالة، ويمكن أن نحمل الآراء المختلفة في الحوالة على المصاديق المختلفة وقبل بيان بعض المصاديق وبتبعها الآراء أضرب مثلاً:

الحوالة عقدٌ أم ايقاع؟

هناك قول للعلامة الطباطبائي قدس سره في العروة أن الحوالة إيقاع وليست عقداً[2] والفرق بينهما أن الإيقاع يكفي فيه طرفٌ واحد، في حين أن العقد مفتقر إلى التراضي بين طرفي العقد، ونتسائل - كما أشكل أغلب المحشين على صاحب العروة[3] - كيف تكون الحوالة إيقاعاً؟

القسم الأول: بلى قد تكون الحوالة إيقاع فيما لو لم يكن عند المحال عليه والمحال (ما يعبر عنه بالمحتال) شرطٌ في طريقة الوفاء ولم يكن هناك شرط عرفي فيه، مثل ما لو أحال المحيل دينه على المحال عليه بكتابة صك مصرفي، فليس من حق المحال ولا المحال عليه أن يرفض الصك، لأن العرف يرى هذه الإحالة طبيعية، كما لا يفرّق المصرف (وهو المحال عليه) بين أين يدفع المال النقدي لصاحب الحساب الأصلي أو من يحمل معه الصك لاكتفاءه بالصك المحمول.

وفي مثل هذه الحالة يمكن أن نقول بكون الحوالة مجرد إيقاع وهي مجرد وفاء للدين، صحيح أن ظاهره حوالة بإعطاء الصك للمحال وصرف له المحال عليه (البنك) ولكن ليس رضاهما (المحال والمحال عليه) شرطاً في صحة الحوالة، فهذا مجرد إيفاء للدين.

القسم الثاني: ولكن قال بعضهم: في حالات أخرى هناك حاجة إلى رضا الأطراف، كما لو أراد المديون (المحيل) إحالة عمرو (المحال) إلى زيد، ففي هذه الحالة يمكن أن لا يرتضي عمرو بهذه الحوالة لعدم الثقة به، وكذلك ربما لا يرتضي زيد (المحال عليه) بإحالة أي شخص عليه في الدين، لإحتمال ترتب مفاسد اجتماعية على ذلك، ففي مثل هذه الحالة يشترط رضا المحال عليه كما يشترط رضا المحال، وبذلك تصبح الحوالة عقداً ثلاثياً من المحيل والمحال ومن ثم المحال عليه، فلابد من رضا الأطراف كلهم، أما عن طريقة التراضي بين الثلاث فسنبينها لاحقاً إن شاء الله، ولكننا في هذا المقام نود بيان أقسام الحوالة.

القسم الثالث: وقد يشترط المحال عليه شروطاً في وفاءه، كما يشترط البنك (في المثال الأول) أن يكون حامل الصك يحمل أوراقا ثبوتية مثلاً ففي مثل هذه الحالة يحتاج المحيل إلى رضا المحال عليه (للمحال الذي ليست لديه هذه الأوراق)، ويكون رضاه شرطاً في المعاملة، وتصبح الحوالة عقداً بين المحيل والمحال عليه.

وقد لا نحتاج في هذا النوع إلى رضا المحال، لأنه مطالبٌ عرفاً بقبول الصك والرضا به – إن لم يشترط النقد – وفي هذا المجال تختلف الأعراف والقوانين، فلكل بلد قوانينه المرتبطة بالحوالة وتختلف عن البلاد الاخرى[4] .

القسم الرابع: هل يشترك في الحوالة كون المحال عليه مديوناً للمحيل؟ فلو أحال المحيل المحال إلى من ليست بذمته له شيئاً، كمن أحال دائنه إلى بنك ليس لديه حسابٌ فيه أو إلى تاجرٍ لا يطلبه شيئاً؟

قال قسمٌ من الفقهاء من المذاهب الأخرى: الحوالة هي عقد بين المحيل والمحال عليه بما في ذمته من مال له، ولكن هذا القيد بحاجة إلى دليل، فقد تصح الحوالة على من لا يدين للمحيل بشي، ويكون نوعاً خاصاً من أنواع الحوالة.

الفلس بعد الإحالة

لو أحال المحيل على شخص باعطاء الدائن (المحال) صكاً، وقبل أن يستوفي المحال دينه من المحال عليه أفلس المحيل، فهل يدخل الصك في حساباته السابقة أو اللاحقة؟

فإن قلنا بدخوله في السابقة مضت حوالته، والا فيجمد الصك ويدخل ضمن سائر امواله للغرماء، ولكن بعض الأحيان لو فقد المحيل الأهلية بأي سبب آخر كالسفه أو مرض او جنون أو.. تبطل الإحالة في بعض القوانين، وباختلاف الأعراف تختلف القوانين وبذلك نقول برجوع كل عقدٍ إلى العرف السائد.

وجملة هذه المسائل التي سنبينها تدعونا الى التفكير في أقسام الحوالات، ولكن أي الأقسام منها هو المعتمد فيما لو شككنا في عقد حوالةٍ ما؟

قد نكون في بلد ونتعامل في كل عقودنا وايقاعاتنا على أساس الأنظمة المرعية في هذا البلد، وعلى أساس رأي الفقهاء الذين يعتمدهم الناس في البلد، فحينما أعقد عقداً كالحوالة لا أتدخل في جميع التفاصيل، بل اعتمد بعد الشرع على القوانين المرعية، إلا إذا استثنى المتعاقدان شيئاً أثناء العقد، كأن يقول أحدهم أني آخذ مسائل الشرعية من المرجع الفلاني الذي يسكن في بلدةٍ أخرى، أو اعتمد العرف الفلاني المعتمد في بلدٍ آخر.

فإذا اشترطا فالمؤمنون عند شروطهم، وبالاطلاق يرجعان إلى العرف الخاص بنوع العقد، فعرف التجار هو الحاكم على التجارة وهكذا عرف البنوك والمصارف و..

ومن هنا إذا أطلقا ثم اختلفا في التفاصيل، يكون مرجعهم إلى الفقيه أو العرف، وحين يبين الفقهاء شروط الحوالة إنما يبينوها لحالات الاطلاق في العقد لا حين الاشتراط، أما إذا أراد اشتراط شرطٍ أو اعتماد عرفٍ آخر فلهما ذلك.

 

الحوالة بغير جنس الدين

لو كان على المحيل مليون دينار فأحال المحال على المحال عليه بـثمانمائة وخمسين دولار ـ مثلاً ـ فهنا قام المحيل بأمرين، الأول: الحوالة، والثاني بيع الصرف، فهل يجوز مثل هذا العقد؟

بلى؛ يجوز ذلك ولكنه يفتقر إلى رضا المحال كما يحتاج إلى رضا المحال عليه، ولكن بعد التراضي لا تعد الحوالة سوى عقدٍ واحد، فحقيقة العقد هو ما كان ضمن التوافق والتراضي، وفيما نحن فيه حصل التراضي في مجموع العقد فلا نعتبره عقود مختلفة للتراضي الواحد، مهما كان محتواه، فقد يكون بيعٌ وايجار ورهن و.. في رضاً واحد.

وفي هذا المجال لو كان زيد يطلب عمراً مليون دينار، وأحاله عمرو على علي، ولكن كان لعمرو عند زيد وثيقة (رهن)، فمتى ينفك الرهن؟ هل بمجرد الإحالة أم بعد الوفاء؟

نقول هنا أيضاً أنه يعتمد على القانون المعتمد، أو العرف أو نوع الوفاء، فمرة ينفك بمجرد الحوالة إذا كان عبر دفع الصك، لأن العرف يرى الصك بمثابة المال له قيمته، ولكن مرة أحلته على شخص آخر ويحتمل عدم وفاءه فيبقي الرهن للاستيثاق.

فإنما ينفك الرهن بعد أن يحصل المحال على ماله او بما يؤدي إليه.

وبكلمة: بالرغم من أن كلمة الحوالة كلمة واحدة، ولكن بسبب الظروف والحاجات وطروء المستحدثات، لم يعد هذا العقد عقداً واحداً وإن دخل في إطار إسمٍ واحد، ومثاله الحوالة التي تحوي على خمسة أطراف او شبهها، ففي مثلها قد نسميها حوالة او نطلق عليها إسماً آخر، إذ المهم هو دخولها تحت إطلاق وجوب الوفاء بالعقود، أو عموم التجارة عن تراض ما دام الشرع لم ينه عنه.

ويبدو أن صاحب العروة قدس سره ـ الذي يقول بصحة مثل هذه العقود ـ يردّ ضمنياً على صاحب الجواهر قدس سره – وإن لم يصرح بذلك – لأن صاحب الجواهر يبطل كل عقدٍ لم يسمى حوالةً، بإعتباره عقداً لم يعرف صحته وبالتالي عدم الوفاء به، وأن ﴿أوفوا بالعقود[5] يخص العقود المعروفة دون العقود المبتدعة، في حين أن صاحب العروة يرى أن العقد الذي تم التراضي عليه ولم يرد فيه النهي يجب الوفاء به وإن لم نسمه بالأسماء المعهودة والله العالم.

 


[4] فائدة: تؤثر أنظمة الحكم والسوق و.. في اختلاف قوانين الحوالة، وكذلك تؤثر الأنظمة الاقتصادية الحرة او الديكتاتورية في إتجاه قوانين الحوالة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo