< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المسألة 9 / أحكام الحوالة / كتاب الحوالة

 

لو أحال شخصٌ دائنه على المحال عليه وأدّى المحال عليه، ثم طالب المحال عليه المحيل بما بذله للمحال لأنه كان بريئاً، بينما ادعى المحيل أنه أحاله لإشتغال ذمته.

قيل في الحوالة؛ إما أن يكون المحال عليه بريئاً أو مشغول الذمة، وعلى مبنى عدم جواز الحوالة على البريء[1] تكون المسألة من الضمان لا الحوالة وعليه فمن أركان الحوالة أن يكون المحال عليه مشتغل الذمة للمحيل، فإن لم يكن كذلك فالحوالة باطلة، وبما أن المحال عليه يعترف بتحقق الحوالة – مع علمه ببطلان الحوالة على البريء- فالقول قول المحيل بكون ذمة المحال عليه مشتغلة، وذلك لأصالة صحة عمل المؤمن، التي تدل على صحة الحوالة الصادرة من المحيل بأن يكون المحال عليه مشتغل الذمة له.

وبتقريرٍ آخر على القول بأن الحوالة على البريء غير جائزة، فلابد أن نحمل فعل المؤمن (المحيل) على الصحة ونقول إنما أحال لأنه كانت ذمة المحال عليه مشتغلة وحيث إعترف الأخير بصحة الحوالة وأنها لا تكون إلا على مشغول الذمة فلازم ذلك إشتغال ذمته إذ أنه يدعي إرتكاب المحيل عملاً غير جائز والأصل خلافه.

أصالة الصحة

ولا بأس هنا بالتطرق إلى بحثٍ في أصالة الصحة، وهو أنها- كما سائر القواعد الفقهية – هرمية الشكل، بمعنى أن اصالة الصحة ترتبط بقاعدة ما، فالإستصحاب يرجع في رأينا إلى أصالة العدم في نهاية المطاف، أي أصالة عدم تحقق شيء يقطع استمرارية الحالة السابقة.

وأصالة الصحة تعود إلى ما ثبت في الفطرة والعقل والشرع، فهو يعتمد على العرف والعقل والشرع، إذ أن الله سبحانه خلق ما خلق على أساس سليم، فخلق كل شيء صالحاً، وإنما الفساد يأتي من قبل الناس أو بعض الأمور التالية، فلو تركت الأمور على أصل خلقة الله لها لكانت صالحة، ومن هنا يقول الله سبحانه: ﴿وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها[2] ، ولكن بتدخل الإنسان يظهر الفساد كما قال الله سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس‌﴾[3] .

ومن هذا نجد أن كل إنسان على فطرته، وقد خلقه الله في أحسن تقويم، ويقول ربنا سبحانه عن الدين بأنه فطري: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي‌ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها[4] .

والبشر أيضاً يحملون عمل بعضهم البعض على الصحة، وليس هذا خاصاً بالمؤمنين وإن كان الأصل فيهم أثبت، فحتى غير المؤمنين يحمل عملهم على الصحة إلا إذا ثبت العكس، وبهذا يثق الناس ببعضهم في محاوراتهم ومعاملاتهم، وإنما يستفيد الكاذب والدجال من هذه الفطرة لغش الناس وتضليلهم.

ولا يحمل الإنسان عمل غيره على الصحة فحسب، بل يحمل عمله الشخصي على ذلك، فلو شك المصلي بعد إتمام الصلاة أو شك بالركوع بعد تجاوز المحل، يصحح الشرع فعله حيث يعتبره أذكر عند العمل، وبرأينا أن قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز مرتبطان بأصالة الصحة، لأن الإنسان السوي يكون أذكر اثناء العمل.

فأصالة الصحة أصلٌ عمليٌ يعتمد على العقل الكاشف بأن الله سبحانه قد خلق كل شيء على أساسٍ صحيح، على العرف القائل بأن الناس يحكمون في معاشهم على أساس تصحيح أفعال بعضهم البعض، وعلى الشرع الذي يقول عمن شك في صحة عمله بعد الفراغ.

وبالعودة إلى ما نحن فيه نقول أن أصالة الصحة في هذه الحالة - حال إعتراف المحال عليه بتحقق الحوالة وعدم جوازها على البريء- ترد على أصالة عدم الشغل، كما أن الكرية الثابتة بأصل الإستصحاب حاكمة على إستصحاب النجاسة بعد غسل اليد النجسة بالماء المشكوك في زوال كريته، كذلك إذا ثبت أن المؤمن إذا أحال على المحال عليه حوالة وكان بريئاً كان مخطئاً بعمله، فأصالة عدم شغل المحال عليه تنخرم بأصالة الصحة.

كل ذلك إنما يكون مع إعتراف المحال عليه بصحة الحوالة وبعدم جواز الحوالة على البريء.

 

النزاع قبل الأداء

وما سبق كان فيما إذا أدّى المحال عليه ما أحيل عليه، أما إذا حصل الخلاف قبل الأداء، اختلفت كلمة الفقهاء السابقين منهم واللاحقين في الأمر، فالمال لم يخرج من كيس المحال عليه بعدُ وهو ينكر إنشغال ذمته للمحيل، وإن كان قد قبل الحوالة – بناءاً على اشتراط قبوله -، بعضهم قال في هذه الحالة لا تجرى أصالة الصحة بعد إلزام المحال عليه بما قال – كما في المسألة السابقة – بل الأمر يختلف، فحتى لو قلنا عند الأداء يكون القول قول المحال عليه، فهنا يكون الحق مع المحيل.

كيف يكون ذلك، والحال أنها من باب واحد، وهو باب اعتراف المحال عليه بتحقق الحوالة واعترف بعدم صحة الحوالة على البريء فهو يعترف ضمنياً بأنما أحال عليه لأنه كان مشغول الذمة، فما الفرق بين الحالتين؟

قالوا: الفرق أن الحوالة إن كانت على البريء أخرجت المسألة من الحوالة ودخلت في الضمان، وإذا كانت من باب الضمان، فالمضمون عنه لا يؤدي المال إلى الضامن إلا بعد أن يؤدي الضامن إلى المضمون له، فقبل الأداء لا شيء على المضمون عنه.

ولنا أن نتسائل كيف نقلوا المسألة إلى باب الضمان والحال أن الحوالة عنوان والضمان عنوان آخر؟

ودعوى كون حقيقتهما واحدة مدفوعةٌ بأن اتحاد الحقيقة لا يمكن أن يجعل الأحكام واحدة، فالهبة المعوضة حقيقتها ونتيجتها كالبيع ولكن أحكامهما مختلفة، وكذا هو حال الصلح مع كل المعاملات حيث تكون نتائجه كنتيجة كل معاملة شبيهة له بينما الأحكام تختلف، ولهذا سمي هذا صلحاً وذاك جعالةً أو بيعاً.

ونحن قد فرقّنا بين الحوالة والضمان بأن الحوالة قرارها يختلف عن قرار الضمان، ففي الحوالة تبدأ المعاملة من المحيل بينما في الضمان تبدأ بالضامن وتدور مداره، فالموجب في الضمان هو الضامن بينما في الحوالة المحيل، وهذا فرقٌ أساسي بين المعاملتين، فالمحال عليه هو طرفٌ ثالث في الحوالة فكيف يمكن أن نجعله ركناً في المعاملة (أي ضامناً)؟

وأما القول بأن فائدة الحوالة على البريء فائدة الضمان، ففيه: وإن كان كذلك لكن أحكامها تختلف عن أحكام الضمان، والله العالم.

 


[1] كما نسب ذلك إلى الشيخ، أنظر، مهذب الأحكام، ج20، ص323. [ المقرر]

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo