< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الآيات والروايات / كتاب الكفالة

من الجدير في العلوم أن نمنهجها هرمياً بمعنى أن نضع في قمة الهرم القواعد العامة ثم نتدرج إلى قاعدة الهرم عبر القواعد والأصول الأكثر خصوصية وصولاً إلى الفروع المتشابهة، وهذا ما اخترناه ونتصور أنه المنهج الذي نجده في كتاب الله العزيز، حيث نجد المنهجية المعرفية تبدأ من معرفة الله سبحانه والإيمان به إلى معرفة اسمائه وسننه، إلى معرفة وصاياه، ومن ثم معرفة الأصول العامة التي يأمر بها والمسماة بالقيم أو غايات التشريع، ومن ثم الأحكام الشرعية.

فمن عرف الله بأسمائه الحسنى عرف سننه ومن عرف سننه عرف وصاياه ومن عرف وصاياه عرف أحكامه، وهذا هو التسلسل الذي نجده في كتاب الله عادةً، هذا بالإضافة إلى الأمر والزجر والترهيب والترغيب.

والسبب في إختيار هذا المنهج هو:

أولاً: إن الفروع المذكورة في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أو كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم ليست شاملة دائماً، فبعض الفروع لم تصلنا، إما لعدم ذكرها أو لعدم وصول الروايات التي ذكرت تلك الفروع إلينا.

ثانياً: تجدد الظروف الذي يستدعي تجدد الأحكام والمسائل، وإذا أردنا معرفة الفروع المستحدثة، فإما يكون ذلك من خلال قياس فرعٍ بآخر وهو قياسٌ باطل، وإما أن نعرف الفرع بالأصل أو بتعبير أهل البيت عليهم السلام من خلال رد المتشابهات إلى المحكمات. وهذا هو السبيل المأمور به.

ثالثاً: نجد أحياناً في الأحكام الشرعية بعض الخصوصيات التي هي الأخرى محل إشكال، وبعرضها على الأصول العامة تتضح معالمها، فلابد من معرفة القواعد العامة لتتضح المتشابهات.

وبذلك نقوم نحن أيضاً بدراسة القواعد والأصول العامة للكفالة قبل الخوض في التفاصيل، ومن ذلك سنورد بعض الآيات الشريفة التي استفيد منها في باب الكفالة، ولكن قبل ذلك نشير إلى أن النصوص لم تتحدث عن بعض التفاصيل الهامة في الكفالة، منها هل يشترط رضا المكفول أم لا؟ ومنها كيفية تسليم الكفيل المكفول للمكفول له؟ ومنها جزاء الكفيل إن لم يحضر المكفول؟

وفيما لم يتضح حكمه في روايات المقام، لابد من الرجوع إلى الأصول العامة، وقصد المتعاقدين لنرى على ماذا بني العقد، هل على أساس إحضار الكفيل للمكفول أو التخلية بينه وبين المكفول له؟ وكذا ما تراضيا عليه حال عدم إحضار الكفيل المكفول، هل يحبس الكفيل أم يغرّم أم ماذا؟

ففائدة معرفة القواعد العامة والتركيز على معرفتها وبلورتها بشكل واضح، أننا نستطيع ملأ الفجوات الحاصلة بسبب المسائل المستحدثة التي لم ترد فيها نصوص خاصة.

آيات الكفالة

أولاً: أما الآيات الواردة والمستفاد منها في باب الكفالة، فأدلّ آية في رأينا، هي قوله سبحانه نقلاً عن النبي يعقوب عليه السلام: ﴿قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِه‌[1] .

بيان ذلك: أن أولاد يعقوب عليه السلام عاهدوا أباهم بالمحافظة على أخيهم، فإما أن يرجعوا جميعاً وإما أن لا يعودوا، وكان هذا موثقهم وليس مجرد القسم بالله سبحانه، وإن كان مجرد القسم أيضاً نوع من الكفالة لأنها من التعهد، ولكن حسب السياق القرآني أنها من الكفالة بالمعنى الأول، بدلالة قول كبيرهم بعد حبس بنيامين: ﴿قالَ كَبيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ في‌ يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لي‌ أَبي‌ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لي‌ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمين‌﴾[2] .

فهذا نوع من أنواع الكفالة وإن سمي في كتاب الله بالوثيقة، والوثيقة نوع من الكفالة، فالدائن يستوثق على دينه إما برهن أو بضمان أو كفالة.

ثانياً: قوله سبحانه: ﴿قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنين[3] ‌، فهي لا تدل على الكفالة، لأنه كان طلباً بإستبدال المحبوس، نعم إن كان طلبهم يقتضي أخذ غيره حتى يعيدوا أخاهم كانت كفالةً ولكن السياق ليس كذلك، ولذلك أجابهم الصدّيق عليه السلام كما قال الله سبحانه: ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُون[4] ، أي نحن لا نأخذ بريئاً على ذنب المذنب.

ثالثاً: قوله سبحانه: ﴿قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعيم‌﴾[5] ، فقالوا أنها تدل على الكفالة، ولكن الحق أنها دالة على الضمان وليس الكفالة، والفرق بينهما أن الكفالة هي ضمان الأشخاص والضمان ضمان الأموال، وحمل البعير مالٌ، إلا بالقول بشمول الكفالة للدواب أيضاً.

وأما كفالة ذي الكفل للأنبياء فلم ترد في القرآن الكريم وإن ورد الحديث عنها في الروايات الشريفة.

 

روايات الكفالة

أما الروايات التي يستفاد منها للكفالة، فهناك روايات فيها إشارة إلى الكفالة منها ما سنتعرض لها في تضاعيف الكلام، ولكن عموماً لا نجد رواية واضحة تأصيلية للأمر، وأعتقد أن السبب في عدم وجودها هو عدم الحاجة لذلك، لأن مجمل روايات أهل البيت عليهم السلام سواء في باب المعارف أو الأحكام أو في التفسير توضح الخفايا والخبايا لحل المعضلات، أما المسائل الواضحة والمصاديق الواضحة فلم تتعرض لها كثيراً.

ومن ذلك قد نعرف السبب في نهي الروايات الشريفة عن الكفالة، فهل النهي كان لكراهة الكفالة عموماً أم النهي كان لسببٍ طارئ؟

فإذا قلنا بكراهتها عموماً فذلك يتعارض مع منافعها في المجتمعات، بإعتبارها تنقذ النفوس، وبالقول بكراهتها تتوقف بعض أبواب الإحسان بين الناس، لكونها نوع من الإحسان.

وتصورنا أن النهي الوارد عن الأئمة عليهم السلام لشيعتهم عن الكفالة، لأنهم كانوا في زمن سوء، فالشيعي متهمٌ بذاته ويؤخذ بالظنة، فقيامه بكفالة غيره يزيد الأمر سوءاً، والنهي جاء في هذه الظروف الصعبة، وفي بعض النصوص التالية إشارة إلى أن النهي كان شخصياً.

عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: أَبْطَأْتُ عَنِ الْحَجِّ فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنِ الْحَجِّ؟ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ تَكَفَّلْتُ بِرَجُلٍ فَخَفَرَ بِي فَقَالَ: مَا لَكَ وَ لِلْكَفَالاتِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهَا أَهْلَكَتِ الْقُرُونَ الْأُولَى ثُمَّ قَالَ إِنَّ قَوْماً أَذْنَبُوا ذُنُوباً كَثِيرَةً فَأَشْفَقُوا مِنْهَا وَ خَافُوا خَوْفاً شَدِيداً فَجَاءَ آخَرُونَ فَقَالُوا ذُنُوبُكُمْ عَلَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى خَافُونِي وَ اجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ[6] .

فالإمام عليه السلام قال لحفص: "ما لك وللكفالات" فهو متجهٌ لشخصه، لمنعها إياه عن اداءه للحج وما فيه من مهام مفروضة عليه.

وأما إهلاكها للقرون الأولى فلا أدري أي القرون وأي الحوادث يقصد الإمام عليه السلام، ولكن الذي يبدو ان الهالكين كانوا من الصالحين ولكنهم لكفالتهم وقعوا في المهالك.

وأما الكفالة في ذيل الحديث فهي ليست من الكفالة المعروفة، بل هي تجرؤ أقوامٍ على الله سبحانه وتحمل إثم المذنبين، وقد عذبهم الله سبحانه لإجترائهم على الله سبحانه، ويبدو أن الإمام جاء بهذا المصداق لكيلا يتكفل الإنسان بأزيد من حده، والله العالم.

وعن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ علیه السلام: "الْكَفَالَةُ خَسَارَةٌ غَرَامَةٌ نَدَامَةٌ"[7] .

أما كونها خسارة لأنها خسارة السمعة وكونها غرامة لإشتراط المكفول له – في الكثير من الأحيان – على تغريم الكفيل إن لم يقم المكفول باداء الحق، والندامة لخسران الكفيل ماله دون عوض.

عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "لَا تَتَعَرَّضُوا لِلْحُقُوقِ فَإِذَا لَزِمَتْكُمْ فَاصْبِرُوا لَهَا"[8] .

وقد نهى الإمام عليه السلام في هذه الرواية عن التعرض لحقوق الناس، ومنها الضمان والكفالة وربما الحوالة منها أيضاً، ولكن لو لزمت تلك الحقوق الإنسان فعليه أن يصبر لها ويؤديها لا أن يتهرب منها.

عن الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الصَّادِقَ عليه السلام قَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْحَجِّ؟ قَالَ: كَفَالَةٌ كُفِّلْتُ بِهَا، قَالَ: وَ مَا لَكَ وَ لِلْكَفَالاتِ أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكَفَالَةَ هِيَ الَّتِي أَهْلَكَتِ الْقُرُونَ الْأُولَى[9] .

وهذه الرواية كالرواية الأولى واردة في سياق الحج.

عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ كَفَالَةٌ نَدَامَةٌ غَرَامَةٌ"[10] .

فهي ندامة حال خفر المكفول، وغرامة لابد للكفيل أن يغرم من ماله.

إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ: "يَا بَنِيَّ إِيَّاكُمْ وَ التَّعَرُّضَ لِلْحُقُوقِ وَ اصْبِرُوا عَلَى النَّوَائِبِ الْحَدِيثَ"[11] .

ربما يستفاد من عموم الرواية عدم التعرض إلى الكفالة.

فهذه الروايات – وكما يبدو- هي روايات خاصة لأفراد معينين في ظروف خاصة، وبذلك ليس بينها وبين عمومات الإحسان والأمر به تعارض، وبعبارة أخرى يمكن القول: من كانت لديهم أعمال وواجبات أهم من القيام بكفالة المطلوبين، مثل أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الذين كان من المفروض عليهم أن يلتقوا بالإمام في موسم الحج ويأخذوا منه تعاليم يرجعون بعدها للقيام باعمال مهمة، فليس مطلوباً منهم القيام بالكفالة.

فيبدو أن الروايات توجيه من جهة أن طليعة الأمة وقياداتها عليهم أن لا ينشغلوا بالأعمال البسيطة التي تمنعهم من القيام بواجباتهم الكبرى، والله العالم.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo