< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/04/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: إطلاق الغريم/ كتاب الكفالة

 

"و من أطلق غريما من يد صاحب الحق قهرا ضمن إحضاره أو أداء ما عليه و لو كان قاتلا لزمه إحضاره أو دفع الدية"[1]

 

إفلات الغريم

من المسائل التي أوردها المحقق الحلي قدس سره في شرائعه ترتبط بإفلات المجرم من يد صاحب الحق ولابد من بحثٍ معمقٍ في هذا الموضوع لإقامة الفقهاء أدلة عامة وخاصة عليها، ولكن قبل إيرادها لابد أن نعرف أن الأصل في الشرع عدم ضياع حق الإنسان فلا يتوى حق أمرء مسلم[2] ، ذلك لأن العدل هو أساس خلقة الخليقة فالله خلق كل شيء بالحق ومن الحق يكون العدل، الذي يقتضي تحمل المتسبب بالضرر للآخر مسؤولية إضراره بجبر الضرر بعيداً عن كل شيء، وخلاف ذلك هو الظلم المستقبح عند العقل والمنهي عنه في الشرع كما في قوله سبحانه: ﴿وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما[3] ، ويقول ربنا سبحانه في الأمر بالعدل – المقابل للظلم -: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[4] .

وبالتدبر في هذه الآية نكتشف – بسبب حذف المتعلق - كون العدل أقرب شيء للتقوى، والتي تتحقق عبر ترك المحرمات، الأمر الذي يعني أن أول ترك المحرمات يكون عبر ترك الظلم وإقامة العدل.

 

الاستدلال بقاعدة لا ضرر

هذا عن الدليل العام، أما في خصوص المقام فقد استدل على وجوب الإحضار أو التغريم بقاعدة لا ضرر، وقد اشكل بعض الفقهاء في شمول القاعدة للمقام، بناءاً على حصر دلالة القاعدة على نفي الضرر دون دلالتها على جبر الضرر، هذا بالرغم من إلتزامهم بالشمول في بعض المسائل.

 

منهجنا المختار

ومنهجنا المستفاد من الشرع وكلمات أهل البيت عليهم السلام في التعامل مع الآيات والروايات هو منهج رد المتشابه إلى المحكم، إذ أن المتشابهات هي الفروع التفصيلية غالباً، ولمعرفتها لابد من دراستها في ضوء القواعد العامة، فإذا وردت – مثلاً – رواية دلت على نفي الضرر قمنا بنسبتها إلى قوله سبحانه: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[5] أو قوله تعالى: ﴿وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌﴾[6] أو قوله عزّ من قائل: ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق‌﴾[7] ، فالرواية[8] ليست بعيدة عن مجمل القواعد العامة في الدين، تلك المسماة عندنا بالقيم.

فلو درسنا هذه القاعدة في إطار القواعد الأعم، وبعبارة اخرى لو فرضنا لا ضرر فرعاً لتلكم القواعد اتضحا ببعضهم البعض، أي اتضحت القاعدة عامة أكثر كما تتضح لا ضرر بصورة أجلى، كما يتم في علم النحو – مثلاً – بيان القاعدة الكلية (الفاعل مرفوع) ثم يضرب لها بأمثلة كـ (مشى زيدٌ)، وبذلك يتضح عند الدارس سبب وقوع زيد مرفوع في الجملة وتتضح القاعدة أيضاً.

فروايات أهل البيت عليهم السلام مرتبطة بالقرآن الكريم، ولابد أن نبحث في كل رواية عن مصدرها وأصلها في آيات الكتاب، وقد لا نصل إلى ذلك دوماً، ولكن هذا البحث ينفع الفقيه كثيراً، وكذلك العكس أي البحث عن الروايات المتشعبة من الآية الكريمة.

وفيما نحن فيه لو اعتبرنا (لا ضرر) جزءاً من قوله سبحانه:﴿وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما[9] ، أو قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[10] نفهم معنى لا ضرر بصورة أجلى والذي يعني حرمة الظلم (الإضرار) و وجوب تحقيق العدالة، وبالعودة إلى هذين الآيتين تتضح مبهمات المسائل في إطار القاعدة، ومنها أن القاعدة تقتضي جبران الضرر.

 

الإستدلال بقاعدة (على اليد)

وكذا استدلوا على الحكم بقاعدة اليد، وبالرغم من أني لم أجد من يصرح بالاستدلال بها إلا أن تعبيراتهم كتعبير الاستيلاء وشبهه، وكأنهم يستدلون بقاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤدي)، و بأخذه للمجرم وإفلاته له صارت يده مستولية فلابد من إعادته، وهذا ما نستفيده من قاعدة اليد، فحسب فهمنا لها نجدها أيضاً قاعدة عقلائية، إذ يقوم نظام المجتمع عليها وأن الإنسان مسؤولٌ عما له صلاحية عليه، وجزءٌ من قوله صلى الله عليه وآله: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"[11] هو قاعدة اليد، فالإنسان مسؤول عن نفسه وعن أولاده القصّر وعن غلمانه – كما في السابق – ومسؤول عن موظفيه – بنسبةٍ معينة – ومسؤول حتى عن دابته التي يركبها.

فليس الإنسان مسؤولاً عن ذاته فحسب، بل حتى عن أفعال غيره، وبهذا المفهوم تكون للإنسان المسؤولية عن فعل الحر، فلو قام بحبس حرٍّ له حرفته التي يترزق بها، فعليه أن يضمن ما كان يحصل عليه لو لم يحبسه ظلماً، بخلاف ما ذهب إليه بعض الفقهاء من عدم الضمان والقول بإقتصار وجوب الضمان على حبس العبد دون الحر، لعدم إعتبار المالية للحر وعمله إكراماً له وجعله فوق أن يحسب بالمال، ولكن الحق أنه يستحق ما خسره بسبب الحبس.

فإذا صح هذا التفسير لقاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) نفهم منه أيضاً مسؤولية الإنسان عن إطلاقه للمجرم أو التستر عليه، فإطلاق الغريم من يد غريمه او من السجن، سواء كان بالمباشرة أو بالتسبيب يستوجب الحكم عليه بإعادته أو خسارة ما كان عليه.

 

الإستدلال بالروايات

وثالث الأدلة المستند إليها في المقام هي بعض الروايات في المقام، والتي إن جعلناها ضمن إطار قاعدة لا ضرر وقاعدة اليد وإطار الآيات الآمرة بالعدل والناهية عن الظلم السابقة، يمكن تعميمها على غير موردها، وإلا فتكون روايات خاصة في مواردها لا يمكن تعميمها على الفروع المتشابهة .

أما الروايات فهي:

كِتَابُ الْغَارَاتِ عَنْ قَدَمٍ الضَّبِّيِّ قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لَبِيدِ بْنِ عُطَارِدٍ التَّمِيمِيِّ لِيُجَاءَ بِهِ، فَمَرَّ [الَّذِي أَخَذَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ‌] بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ بَنِي أَسَدٍ وَ فِيهِ نُعَيْمُ بْنُ‌ دَجَاجَةَ، فَقَامَ نُعَيْمٌ فَخَلَّصَ الرَّجُلَ، فَأَتَوْا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا:

أَخَذْنَا الرَّجُلَ فَمَرَرْنَا بِهِ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ فَخَلَّصَهُ وَ كَانَ نُعَيْمٌ مِنْ شُرْطَةِ الْخَمِيسِ فَقَالَ: عَلَيَّ بِنُعَيْمٍ. [فَأُتِيَ بِهِ‌] فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْباً مُبْرِحاً، فَلَمَّا وَلَّوْا بِهِ [إِلَى السِّجْنِ‌] قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ الْمُقَامَ مَعَكَ لَذُلٌّ وَ إِنَّ فِرَاقَكَ كُفْرٌ.

قَالَ: إِنَّهُ لَكَذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ[12] .

ولكن ليس في الرواية ما يدل على الحكم المزبور، فهي تدل على حرمة الدفاع عن المجرم وحرمة العمل بخلاف أمر الإمام عليه السلام و استحقاق العقوبة، دون أن تكون ناظرة إلى التغريم المترتب على من أفلت الغريم، نعم في الرواية التالية دلالة على ما نحن فيه:

عَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْداً فَرُفِعَ إِلَى الْوَالِي فَدَفَعَهُ الْوَالِي إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِيَقْتُلُوهُ فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ فَخَلَّصُوا الْقَاتِلَ مِنْ أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ قَالَ: "أَرَى أَنْ يُحْبَسَ الَّذِي خَلَّصَ الْقَاتِلَ مِنْ أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يَأْتُوا بِالْقَاتِلِ" قِيلَ فَإِنْ مَاتَ الْقَاتِلُ وَ هُمْ فِي السِّجْنِ ؟قَالَ: "وَ إِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِمُ الدِّيَةُ يُؤَدُّونَهَا جَمِيعاً إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ"[13] .

فلم يحكم الإمام عليه السلام بالدية في المقام لكون القتل عمدي يستحق القاتل القصاص، نعم؛ لو مات القاتل عليهم أن يعطو الدية، فالدية هي بدل الخسارة التي لحقت بأولياء الدم إثر إفلات القوم للجاني المستحق للقود، فبفوات الأول يلزمهم الثاني، وجبر الخسارة كلا خسارة، فلما يعطى العوض يكون نوع من جبران الخسران، ولو أرجعنا الرواية إلى قاعدة لا ضرر وسائر القواعد السابقة تتضح المسائل المشابهة لها، كما لو لم يكن القاتل قاتل عمد، بل قاتل بالخطأ فيمكن أن يؤخذ منهم الدية، أو إذا كان جرمه الجراحة وشبهها، وبعض الفقهاء استدلوا بهذه الرواية على هذه الفروع.

وإذا نفتش في الشرع نجد أن المسبب عليه أن يتحمل المسؤولية، كما في باب الديات وباب القصاص وباب الغصب وكذا في باب من حفر بئراً على الطريق فعليه أن يدفع الدية، فمجمل هذه المسائل بإضافة قواعد لا ضرر وعلى اليد وشبههما، يتحصل للفقيه نوع من الإطمئنان بأن المسبب لخسارةٍ ما عليه أن يعوضها بحسب الظروف المختلفة، أما القول بعدم الدليل على تحميله المسؤولية فيه نظر.

ومن اللواحق التي اختلف فيها في هذه المسألة، ما لو كان المخلص للغريم من يد غريمه صبياً أو كان مجنوناً، فهل يتحملان المسؤولية؟

قيل يتحملان، لأنهما يضمنان بعد البلوغ والإفاقة، ولكن بعض الفقهاء كصاحب الجواهر[14] استشكل على ذلك لعدم التنقيح، والمسألة لا تخلو من الإشكال، فمن جهة نحن لا نفرق في الضمان بين الصبي وغيره، ولكن من جهة أخرى رفع القلم عنهما حاكم، ولكن إذا ثبت أن الصبي هو المسبب الأساس فإحتمال مسؤوليته أقوى، ولكنا ننصح في مثل هذه الحالات بالصلح.

 


[8] لا ضرر ولا ضرار. [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo