< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية / كتاب الصلح

 

بحسب سياق الكتب الفقهية يأتي الحديث عن باب الصلح بعد الحديث عن كتب الضمان والحوالة والكفالة، ولابد من التمهيد بالحديث عن الأبعاد أو الأطر المختلفة للصلح.

 

البعد الأول: صلاح الخليقة

أول الأبعاد وأساس سائرها هو أن الله سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق وأصلح أمرهما، وليس شيء في الخليقة فاسداً خلقةً بل كل شيء خلق في أحسن صورة وتقويم بدءاً من أصغر ذرة وانتهاءاً بأكبر مجرة مروراً بالنباتات والحيوانات و الإنسان، فكل شيءٍ خلقه الله خلقاً صالحاً، وإنما يطرأ الخلل من قبل الإنسان وسوء تصرفه، وقد قال سبحانه: ﴿وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها[1] ، وقال عز من قائل: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس‌﴾[2] .

فالفساد – المقابل للصلاح – هو إنحراف الخليقة عن مسارها الطبيعي والذي يكون بفعل الإنسان، الأمر الذي حرّمه الشارع المقدس.

وضمن هذا الإطار العام نحن نحارب كل فسادٍ وإفساد كالصيد المؤدي إلى إنقراض النوع أو قلع الأشجار المؤدي إلى نقص الأوكسيجين أو أي فعل يؤدي إلى تلوث البيئة سواء من ناحية الهواء أو الضوضاء أو أي نوعٍ من أنواع الإفساد، وفي هذا المجال آيات وروايات كثيرة نهت بصورة عامة أو خاصة عن الإفساد.

والصلح والإصلاح يأتي – غالباً – بعد الفساد، فالصلح يكون بعد وجود فساد، وحين ينهى الشرع عن الإفساد يعنى عدم تغيير الوضع الصالح القائم.

 

البعد الثاني: الصلاح في المجتمع

أما الإطار الأقل عموماً للصلاح هو فيما يرتبط بالإصلاح في المجتمع، فصلاح المجتمع يتحقق بالسلم الأهلي والتعاون وعدم إعتداء البعض على الآخر، والإسلام يؤسس لصلاح المجتمعات البشرية مؤكداً على السلم الأهلي في مواضع كثيرة، منها قوله سبحانه: ﴿وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم‌﴾[3] .

ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي ينبغي أن يقوم الناس بعملية الإصلاح، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في آخر وصاياه: )سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَام‌([4] .

حقاً ماذا تنفع الصلاة والصيام إن كان المجتمع متناحراً ومفسداً، أو هل كانت تنفع صلاة عمر بن سعد المفسد؟ أم ينتفع اليوم التكفيريون بصومهم وصلاتهم؟

وهذا النوع من الإصلاح قد يكون واجباً عينياً على الدولة وذلك فيما إذا اقتتل المسلمون فيما بينهم، فحينذاك يكون الهدف الأول إخماد نار الحرب والإصلاح بينهم ويلي ذلك القيام بواجب تحقيق العدالة وإقامة القسط، قال ربنا سبحانه: ﴿وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‌ فَقاتِلُوا الَّتي‌ تَبْغي‌ حَتَّى تَفي‌ءَ إِلى‌ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌[5] .

والآية هذه تبين علاقة الميثاق وهي علاقة الطوائف مع بعضها البعض، إذ قد تكون العلاقة بين طرفين أو أطراف محدودة وهي العقود، وقد تكون بين طوائف كبيرة كالمسلمين وغيرهم وهي مواثيق وعهود، ومن هنا نعرف عدم دقة تسمية العلاقة بين أبناء المجتمع بالعقد الاجتماعي – أو على الأقل عدم دقة النقل إلى اللغة العربية – لأنه عهدٌ وميثاق وليس عقداً.

وكيف كان فالإسلام يحترم العهود والمواثيق ويؤكد على الوفاء بها حتى مع المشركين، قال الله سبحانه: ﴿إِلاَّ الَّذينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى‌ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقين‌﴾[6] .

 

البعد الثالث: عقد الصلح

والبعد الثالث للصلح هو ما يقع كعقد بين طرفين أو أطراف محدودة، وهو أكثر تحديداً مما سبق وأخص من الصلح في الحياة العامة والصلح في المجتمع بين الطوائف المتنازعة، وقد بيّن القرآن الكريم هذا النوع من الصلح في موارد شتى:

المورد الأول: الإصلاح في العلاقات الاسرية

وقد ذكر في بعدين:

الأول: الصلح بين الرجل وزوجته، كما لو نشب خلافٌ بينهما أو خافت المرأة أن يتركها زوجها ولا يؤدي حقها إليها أو يعرض عنها كلياً، فتقوم بالتنازل عن بعض حقوقها من أجل تنازل الزوج عن بعض حقوقه، قال الله سبحانه: ﴿وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ[7] .

وقوله سبحانه: ﴿وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ تعميمٌ للحكم السابق بعد بيانه في مورده الخاص، فعموم الصلح محبذ سواء كان بين الآباء والأبناء، بين الإخوان، أو بين الجار وجاره، أو بين أي مختلفين ومتخاصمين، ذلك لأن الصلح ينسجم مع إرادة الله سبحانه بأن يعيش الناس مسالمين ومتناغمين، فما دام الصلح يؤدي إلى هذا الأمر فهو أمرٌ جيد لأنه يؤدي إلى تحقيق قيمة من القيم الإلهية وكل ما أدى إلى تحقيق قيمة سامية كان حسنا.

الثاني: والبعد الثاني يرتبط هو الآخر بالصلح بين الزوج وزوجه ولكن بواسطة الآخرين وهما الحكمان من أهله ومن أهلها، حيث يقوم الحكمان بمحاولة الإصلاح بين الزوجين، قال الله سبحانه: ﴿وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُريدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَليماً خَبيرا[8] .

والملفت في الآية الإشارة إلى أهمية نية الحكمين في عملية الإصلاح، فإن كانت الرغبة الأولية عندهما تهدف الإصلاح وإبقاء البيت الأسري والمنع من الوصول إلى أبغض الحلال (الطلاق) فالله سبحانه يوفقهما لذلك، أما إذا كانت نيتهما أو نية أحدهما لا تهدف ذلك فالأمر يختلف.

ومن هنا نستفيد أن أي عملٍ بدأ بهدفٍ خالص ونية مخلصة يوفق الله سبحانه صاحبه لتحقيقها، أما إذا شابت النية شوائب العصبية والمصلحية وغيرها ففرص نجاح العمل تتضائل.

المورد الثاني: الإصلاح في النزاعات الاجتماعية

تحدث النزاعات والصراعات الفردية بين أبناء المجتمع ومن الضروري إخماد نارها قبل أن تتفاقم دون إيكال الأمر إلى المحاكم والقضاة، فإنهم وبالرغم من وظيفتهم بحل النزاعات إلا أن إثقالهم بالنزاعات الصغيرة والجزئية يبطئ من عملهم ويشغلها عن قيامها بواجباتها بشكل أفضل.

من هنا نجد القرآن الكريم يؤكد على ضرورة القيام بعملية الإصلاح بين المتنازعين، قال ربنا سبحانه: ﴿وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليم[9] ، فلا يحق لأحدٍ أن يمتنع عن الدخول في عملية الإصلاح بحجج مختلفة، بل لابد من التدخل في إصلاح الفتن لئلا يتسع الخرق.

إن إصلاح ذات البين نظام اجتماعي يسهم في إنهاء الخلافات والنزاعات والفتن قبل توسعها.

 

المورد الثالث: الصلح في العقود

والحديث عن الصلح في إطار العقود، وبحث العقود لا تشمله كل آية وردت عن الإصلاح، فهناك آيات مرتبطة بإصلاح الخليقة وأخرى ترتبط بالإصلاح بين الطوائف، وهناك آيات تتحدث عن الإصلاح بين الأفراد كالزوج والزوجة وهذا القسم هو المرتبط بالعقد.

وسنتحدث في البحث القادم عن معنى الصلح بالمعنى الأخص بين الناس فيما يرتبط بشؤونهم.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo