< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/06/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: إعتبار علم المتصالحان بمقدار الحق / كتاب الصلح

 

هل يشترط علم المتصالحين على تفاصيل الحقوق المتعلقة بينهما ليتنازلا عنه بطيبة أنفسهما أم يكفي العلم الإجمالي؟

قيل بإعتبار العلم، إذ من دون ذلك قد يتحقق الغرر المنهي عنه، وقال آخرون أن الصلح أساسه مبنيٌ على تجاوز الحقوق فيتجاوز المتصالحان عن حقهما لمصلحة الآخر للإحسان اليه، وبالتالي قد يقدم على الغرر في هذا السبيل، فمبنى الصلح يختلف عن مبنى سائر العقود فهي مرتبطة بالأمور المادية بينما مبنى الصلح يرتبط بالعلاقات الاجتماعية والقيم الإنسانية العليا.

 

ولتحرير المطلب لابد من بيان أمور:

الأول: الصلح والتجاذب

لا نرى أن الصلح يأتي لقطع التجاذب والنزاع أو منعه – كما بينّا ذلك سابقاً- فقد يكون مبناه ذلك كما قد يكون مبناه وجود رغبة بتجاوز الشروط للعقد، ومن هنا يشكل على المحقق قدس سره بقوله: "و كذا يصح مع علم المصطلحين بما وقعت المنازعة فيه و مع جهالتهما به دينا كان أو عينا"[1] ، إذ ليس من الضروري أن يكون ثمة تنازعٍ ليأتي الصلح لحله، بل يمكن تصور الصلح بلا تجاذب.

 

الثاني: الغرر في العقود

النهي عن الغرر في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ليس مختصا بالبيع فحسب كما بيّنا مراراً، ولعل السبب في هذا النهي هو أن الغرر والجهالة يؤديان إلى الإختلاف والمنازعة وبالتالي قد يؤدي إلى الضرر، وكل ذلك مما نهى عنه الإسلام في نصوص واضحة وصريحة، ومن أجل ذلك كان بناء العقود على دفع المنازعات فإن كان العقد الغرري لا يحقق الغاية منه فما فائدته إذاً؟

ومن هنا يمكن الإعتماد على النبوي الناهي عن الغرر بإطلاقه، إلا أن السؤال: هل يشمل ذلك عقد الصلح أيضا، وذلك بإعتبار أن الصلح أساساً قائمٌ على الجهالة وعلى تجاوز حقٍ لا نعلمه من أجل الوئام والسلام؟

وقبل الإجابة لابد من بيان مثال فقهي في باب آخر وهو الحرج في الجهاد، فالشرع قد نفى الحرج في الدين فقال ربنا سبحانه ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج‌﴾[2] وأراد للناس اليسر لا العسر فقال سبحانه: ﴿يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْر[3] ، والحال أن الجهاد في سبيل الله فيه العسر والحرج كما لا يخفى فكيف يحكم بوجوبه؟

أجيب عن ذلك بأن الجهاد مبنيٌ على المجاهدة وتحمل المشاق، قال الله سبحانه: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‌ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُريدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُريدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزيزٌ حَكيم‌﴾[4] وبذلك فالجهاد خارجٌ تخصصاً عن شمول أحاديث الرفع ولا ضرر وآيات إرادة اليسر ودفع العسر ونفي الحرج له.

لكن وبالرغم من ذلك لنا تبصرة في هذا المجال في باب الجهاد نستأنس به لما نحن فيه ونقول: صحيحٌ أن الجهاد مبنيٌ على العسر والمشقة والحرج ولا تشمله الأدلة، ولكن تبقى للعسر والمشقة حدود في الجهاد أيضاً، فإذا تعداها شملته الاحاديث، فالمشاكل الموجودة في الحرب مقبولة، أما إذا تضاعفت فلا، كما قد يتصور ذلك في بالاسلحة الكيميائية التي لا يملك المسلمون أي سلاحٍ يقاومون به سلاح العدو فنشك في شمول أوامر الجهاد له، لأنه أكثر مما هو عادة في الجهاد، فهو حرجٌ بالنسبة إلى الجهاد فضلاً عن غيره.

 

الغرر في الصلح

أما الغرر في الصلح فهو جزءٌ منه لعلم المتصالح بإحتمال ربحه أو خسارته ن ولكن هذا المقدار معفيٌ عنه بإعتبار أن الطرفين قد أقدما عليه كما في الهبة التي أساسها التضرر والإحسان الذي يضر الإنسان.

ولكن للغرر المسموح حدوداً عرفية، فإذا تجاوز الغرر ما هو متعارفٌ في الصلح تشمله أدلة النهي عنه، كما لو كان يظن المصالح أن حقه يتراوح بين الدينارين والأربع فصالح صاحبه على ثلاثة، ثم بان كونه مائة دينار، فالغرر في المقام لا يكون متسامحاً فيه في عرف الصلح فضلاً عن غيره، والسبب في ذلك إنتفاء القصد.

 

القصود في العقود

العقد في حقيقته تعبيرٌ عما في نية الإنسان، وفي بعض العقود وبسبب الجهالة أو سوء التطبيق لا نية وقصد واقعي فيها، وفي بعضها تكون النية متزلزلة، ففي الثاني شرّعت الخيارات ومنها خيار الغبن المرتبط بالغرر، حيث يفتقد المغرور القصد الحقيقي وإن أقدم على المعاملة وذلك لجهله بالثمن المستحق لما أعطاه، ففي الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام: "غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ سُحْتٌ"[5] ، وذلك لأخذ الغابن أضعاف قيمة بضاعته بسبب جهل المسترسل بالسعر الحقيقي، فلا نية للمغبون بأن يقدم على معاملة بأضعاف قيمتها الأصلية، بل كانت نيته أن يقدم على شراء شيء بقيمته السوقية أو أزيد منها بقليل.

ففي القصد المتزلزل نقول بالخيار، ومن هذا المنطلق أدخلنا كل الخيارات باستثناء بعضها المنصوص عليها ـ خياري المجلس والحيوان ـ في باب ما يسمى بنقص النية والقصد.

وإن لم يكن هناك قصدٌ وإرادة فلا ينعقد العقد، كما لو كانت إرادته في الصلح أن يكون الغرر بين الدينارين والأربع لا بين دينارين ومائة دينار، فالنية هنا مدخولة وناقصة، فيكون الغرر هنا مبطلٌ للصلح أيضاً.

وبكلمة: الصلح قائم على أساس الغرر ولكن بمقداره المتعارف في الصلح لا ما يُفقد النية والإرادة كما الغرر الفاحش.

وفي المقام روايات:

عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: " قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام: رَجُلٌ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَاتَ أَ لِي أَنْ أُصَالِحَ وَرَثَتَهُ وَ لَا أُعْلِمَهُمْ كَمْ كَانَ قَالَ: "لَا يَجُوزُ حَتَّى تُخْبِرَهُمْ"[6] ، ودلالتها على ضرورة المعرفة بالحق واضحة.

عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَعَامٌ عِنْدَ صَاحِبِهِ لَا يَدْرِي هَذَا كَمْ لَهُ عَلَى هَذَا وَ لَا يَدْرِي هَذَا كَمْ لَهُ عَلَى هَذَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ لَكَ مَا عِنْدَكَ وَ لِي مَا عِنْدِي وَرَضِيَا بِذَلِكَ قَالَ: "لَا بَأْسَ إِذَا رَضِيَا بِذَلِكَ وَ طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمَا"[7] ، وهي صريحة في جعل طيب النفس المحور في صحة الصلح.

عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الشَّيْ‌ءُ فَيُصَالِحُ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ"[8] .

 

موضوع الصلح

سبق وأن قلنا أن موضوع الصلح له ثلاثة أسباب:

الأول: حل المنازعة القائمة.

الثاني: الخوف من نزاع قادم والمصالحة لمنع ذلك.

الثالث: التحابب والإحسان.

وهناك سببٌ رابع يتصور للصلح، وذلك الصلح في صورة عدم إمكان استعلام مقدار الثمن والمثمن في البيع أو عدم التمكن من تحقيق حدود العقد، كما لو كانت هناك ظروف طارئة تمنع المتبايعين من استعلام مقدار الثمن والمثمن، فإن اعتبرت المعاملة بيعاً بطلت لاشتراط العلم بالثمن والمثمن بما يرفع الجهالة والغرر، ولكن إن تعاقدا بعقد الصلح جاز ذلك وصحت المعاملة.

وهذا السبب هو الآخر سببٌ مسوّغ للصلح للفرار من الجهل المبطل للبيع إلى الصلح الممضي معه، وبعبارة أخرى فرارٌ من الحرام إلى الحلال.

والأسباب الأربعة تسوغ الصلح في مختلف العقود كلها سوى التي أكد الشرع المقدس على ضرورة وضوح تفاصيلها كالنكاح والطلاق، لإرتباط النكاح بالنسب وبناء الأسرة و غيرهما، فهو عقد أكبر من كونه علاقة بين المرأة والرجل، بل هو ضمن نظام اجتماعي متكامل، ولذلك كان بحاجة – مضافاً إلى رضا الطرفين -– موافقة النظام الاجتماعي.

وربما يفرض الولي الفقيه والحاكم العادل بعض الأحكام فيما يرتبط ببعض العقود، هي الأخرى لابد من الالتزام بها وتحقيقها.

فالصلح يصح فيما لو كان الحق بينهما ولا يتجاوزهما، أما إذا كان الحق يتجاوزهما فلابد من الإلتزام بالحدود الموضوعة من أجل تحقيقه، والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo