< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الحقوق الفردية المتعارضة مع حقوق الآخرين /كتاب منازعات الملك

 

"إذا خرجت أغصان شجرة إلى ملك الجار وجب عطفها إن أمكن و إلا قطعت من حد ملكه‌ و إن امتنع صاحبها قطعها الجار و لا يتوقف على إذن الحاكم"[1] .

 

فيما يتصل بالعيش المشترك بين الناس في المدن والقرى والتجمعات السكنية الأخرى، يدور الحديث حول محورين أساسيين:

الأول: حول الحقوق وحدودها، فأين يبدأ حقي وأين ينتهي وكذا حق جاري إلى أي مدى يعد حقاً له؟

الثاني: فيما يرتبط بالإضرار بالآخر حال إستعمال الحق الشخصي.

ولابد من الفصل بين الحديث عن الحقوق وحدودها وبين حالة إحداث الإضرار بالآخرين، لأن الحقوق تعتمد على أدلتها الخاصة بينما الإضرار فحكمٌ ثانوي يرجع إلى قاعدة لاضرر المستفادة من الحديث الشريف.

الغصن الداخل على بيت الجار

وفيما يرتبط بمسألةٍ طرحها الفقهاء عن أغصان شجرة دخلت إلى فضاء بيت الجار كيف يمكن التعامل مع الأمر؟ ومثلها كل الحقوق التي يملكها صاحب الدار ولكنها تتعارض مع حقوق الجيران، مثل من يقيم مجالس العزاء في داره بما يزعج صوته جيرانه، فأين حدود حقوقه وأين هي حدود حقوق الجار؟

وكذا لو كانت له مولدة كهرباء يزعج صوتها ودخانها الجيران، أو لو صنع في بيته مادة معينة تعم رائحتها الجوار، أو يحرق النفايات في فناء داره حيث يعن المنطقة الدخان.

وكذا لو صنع منحلةً أو بيت حمامٍ ينتشر في أرجاء المنطقة وربما يدخل بيوت الجيران، ففي كل ما سبق أن حدود حق صاحب الدار وأين تكون حقوق جيرانه؟

في الواقع: يجب أن ندخل كل هذه المسائل في ضمن أمرٍ واحد وهو أن نعرف معنى الملكية، فما تعني الملكية أساساً وكيف نرسم حدودها، ومن يرسم هذه الحدود؟ فهل هناك قوانين ثابتة تحدد المالكية أو القوانين تتغير بتغير الظروف؟

قد يقال أن الملك للشيء هو تملكٌ مطلق له، فإن ملك امرءٌ أرضاً ملكها من تخوم الأرض إلى عنان السماء، ولكن ما هو الدليل على ذلك؟ وما هي حدود ملك الفضاء وبأي دليل؟

قد يجاب بأن الدليل هو معنى الملكية، وفيه أن معنى الملكية أمرٌ عرفي وبالتالي يجب أن نرجع إلى العرف في تحديد مفهومها، سواء قلنا لكونه هو الحاكم أو لوجود ميثاق بشري بين الناس.

ولما كانت الملكية العرفية عبارة عن جملة من الحقوق المجتمعة كحق التصرف وحق البيع وحق الهبة وغيرها من الحقوق، فمع الشك في شمول معنى الملكية للحق في تصرفٍ ما فالأصل هو عدم الحق.

الملكية الحقيقية هي لله سبحانه، الخالق للأشياء والمهيمن عليها، أما ملكية البشر فهي صلاحية التصرف وتخويلٌ من قبل الله سبحانه للتصرف في الأمور بحدود معينة، فالملكية في البشر أمر إعتباري، ومع الشك في شمولها في بعض الجوانب أقتصرنا على القدر المتيقن.

أما بالنسبة إلى الضرر، فمن الطبيعي يحق للإنسان التصرف في ماله من حقوق شريطة أن لا يتسبب للآخرين بالضرر، ولكن كيف نقيس الضرر؟ إذ قد يتضرر الإنسان بمنعه من التصرف في ملكه وبالتالي يتعارض الحقان، فأيهما مقدم؟

وفي الواقع فإن هذه المسألة حساسة ينبغي أن تدرس بعمق فكلمة "لا ضرر" كلمة عميقة ذات أبعاد واسعة، ومن تلك الأبعاد ضرورة النظر إلى المجتمع كجسد واحد، وبالتالي عدم إضرار شخصٍ على حساب آخر وإن كان ولابد فلابد من تقسيم الضرر، فلا ضرر يمسه ولا إضرار بالآخرين كما قد يستفاد من معنى "لا ضرر ولا ضرار".

وهناك معايير دقيقة يعينها الشرع أو العرف أو الحاكم الشرعي، أو يتم التصالح على تحديدها، وبالتالي يقسم الضرر الحادث على الأطراف.

فالمعيار الأولي هو حكم الشرع وتحديده وإلا يصار إلى تحديد العرف، وإلا إلى الحاكم الشرعي، ومع عدم وجودهم فيرجع إلى القواعد العامة مثل قاعدة العدل والقسط، وبالتالي لا تبقى الأمور فوضى، فمثلاً في الأرضين المتجاورتين التي يريد صاحب احداهما زراعة الرز والآخر زراعة الشعير، يتم التصالح على جبران خسارة أحدهما أو زراعة هذا موسماً وذاك موسماً آخر، أو جعل أرض محرمة لا تزرع بينهما أو ما أشبه من الأساليب التي تمنع وقوع الضرر جميعه على احد الأطراف.

أغصان الشجرة

وكذا يتم القيام بهذا الأمر فيما يرتبط بسائر المسائل التي مرّ ذكرها، أما فيما يرتبط بأغصان الشجرة الداخلة على بيت الجار، فتارةً يكون بناء الدور بعد وجود الأشجار فالعرف لا يرى للجار حقاً في قطع الأغصان وإن كانت داخلة على بيته لسبقها على وجوده، إذ يعتبر العرف للغابات حقاً خصوصاً إن كان في عدم رعايتها إضرار بالبيئة.

أما في غير حالة السبق فيرى العرف بقطع الأغصان الداخلة على بيت الجار مع مزاحمتها، أما مع عدم المزاحمة فهل يحق للجار أن يقطعها بإعتباره يملك فضاء داره؟

نحن لا نحدد ذلك، بل نحيله إلى العرف، فقد لا يعتبر العرف دخول الغصن في فضاء الدار شيئاً يستحق القطع إلا مع الإضرار.

ومن هنا فإن الإطلاق في الحكم مشكلٌ لإختلاف الأعراف وتغير الموازين، فالأفضل إحالة الحكم إلى القضاء والعرف، كما قد يرى العرف عدم المانع من وجود منحلة يدور النحل في المنطقة فلا يمنع وقد يرى به بأساً فيمنع.

أما مع عدم وجود العرف ووجود التشاح ومع عدم التصالح، فيرجع إلى الحاكم الشرعي والحاكم يحكم بالقواعد العامة كالعدالة وأصالة عدم الحق وشبههما.

قال المحقق الحلي قدس سره: "إذا خرجت أغصان شجرة إلى ملك الجار وجب عطفها إن أمكن و إلا قطعت من حد ملكه‌و إن امتنع صاحبها قطعها الجار و لا يتوقف على إذن الحاكم"[2] .

ولنا أكثر من تعليق على قول المحقق هذا:

أولاً: وجوب العطف هو فيما لو لم يكن العرف يسمح بتداخل الأغصان كما في الغابات والمناطق التي سبقت الأشجار المنازل.

ثانياً: لا يقتصر الأمر على أغصان الأشجار، بل يعم جذورها أيضاً، فقد تدخل الجذور إلى بيت الجار وتسبب أضراراً عليه، ففيه ما في الأغصان.

ثالثاً: قيل بعدم الحاجة إلى إخبار صاحب الشجرة إن أريد قطع الغصن، ومثلوه بطرد دوابه من الدار، ولكن قال بعضٌ بالحاجة إلى الأخبار مراعاةً للناحية الإجتماعية.

رابعاً: قال المحقق بعدم توقف القطع على إذن الحاكم، وهذا بالطبع في أغلب الحالات لجواز الدفاع الشرعي للإنسان عن نفسه وملكه وحقه، فللإنسان صلاحية تحصين ملكه من جيرانه بما يراه دون إستئذان.

 

الصلح على الهواء

ثم قال المحقق قدس سره فيما يرتبط بالتصالح على إبقاء الأغصان في مقابل شيء: "ولو صالحه على إبقاءه في الهواء لم يصح على تردد"[3] .

المنع من المصالحة هو قول الشيخ قدس سره، وتردد المحقق في المنع لإمكان تملك الفضاء بخلاف ما ذهب إليه الشيخ، وأجاز المصالحة على وضعه على الجدار لكونه ملكاً له، ولكن اشترط من تقدير أطراف الصلح، فقال: "أما لو صالحه على طرحه على الحائط جاز مع تقدير الزيادة أو انتهائها"[4] .

وشكك المحقق النجفي في جواهره في إعتبار هذا الشرط لإمكان التصالح مع عدم تحديد مثل هذه الامور، إلا بناءاً على القول بتابعية الصلح للعقود الأخرى وإعتباره جزءاً منها، فيكون التصالح هنا جزءاً للإجارة وبالتالي يشترط فيها من تقدير مقدار الزيادة في الغصن وانتهائها، والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo