< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

38/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الصلح العالمي / كتاب نزاعات الملك

في ختام الحديث عن كتاب الصلح ينبغي أن نذكّر بأمرين أساسيين:

الأول: أهم المعايير التي سبق وأن بينّاها في بداية الكتاب واعتمدناها في مسائله وأحكامه هي:

أولاً: الصلح عقدٌ مستقل يهدف إيجاد العلاقة الإيجابية بين المسلمين ورفع ما بينهم من حزازات، ولا يهدف تبادل المنافع من الأساس بل قد يكون هدفاً ثانياً، ولذلك يتسامح في الصلح ما لا يتسامح في غيره من العقود مثلما يرتبط بالغرر، بلى؛ الصلح جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراماً أو حرم حلالاً كما هو مروي، فكلما اصطدم الصلح بحد شرعي لم يجز، أما غير الحدود من الأحكام الواردة في العقود الأخرى فلا تشمل الصلح لكونه عقداً مستقلا.

ثانياً: فيما يتصل بالإرتباط بين الناس وعلاقتهم ببعضهم البعض وخصوصاً علاقات الجيرة، يجب الرجوع إلى العرف حين الشك في حقٍ من الحقوق مع عدم وجود النص الشرعي، فالعرف هو الفيصل لأن الحقوق أساساً تنظّم عبر الأعراف القائمة بين الناس والمواثيق بينهم.

 

الثاني: هناك حاجة ماسّة للحديث عن الصلح بالمعنى العام أو ما نسميه بالصلح في الإطار الدولي والإطار الإجتماعي العام، فالصلح يرتبط بالحقوق وقد تناول الشرع أدق حقوق الناس على بعضهم البعض في الجوانب الفردية وبيّن أحكامها كعدم جواز الإتكاء على حائط الغير دون إذنه، وفي القضاء يجب على القاضي أن ينظر في دعوى السابق في الدخول عليه وإن دخل مدعيان معاً قرع بينهم رعاية للحقوق.

وكتاب الحقوق المنسوب إلى الإمام زين العابدين عليه السلام يغنينا عن الحديث عن الحقوق، لشموليته وتبيين أنواع الحقوق بدقة المرتبطة بعقيدة الإنسان وسلوكه الفردي وغيره.

ولكن الحديث عن علاقة المجتمعات ببعضها البعض والصلح المجتمعي العام لا نجده إلا لماماً، والسبب في ذلك لعله كان لأن المتولين لإدارة علاقة المسلمين ببعضهم كمجتمعات أو علاقتهم بغيرهم من الأمم، لم يكونوا ممن يتقيّد بأوامر الشرع غالباً، بل كانوا يعملون وفق ما تمليه عليهم أهوائهم ومصالحهم، فبالرغم من وجود آيات كريمة ترتبط بهذه المسائل إلا أنها لم تطبّق على أرض الواقع، وهذا يحتم علينا أن نتحدث عن هذا الأمر بشيءٍ من التفصيل من خلال بيان أمور.

الأمر الأول: ركائز الصلح

قبل كل شيء لابد أن نتسائل: ماهي ركائز الصلح العالمي والسلم والأمن العالمي في فلسفة الإسلام وبصائر كتابه العظيم: القرآن؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل نذكر بعضاً من تلك الركائز وأولها ركيزة القوة الرادعة.

الركيزة الأولى: القوة الرادعة

إن أول ركيزة أساسية للأمن العالمي هي القوة الرادعة، بمعنى إمتلاك الأمة لقوى تمنع الآخرين من التعرض لها، ولولا تلك القوة لأصبحت فريسةً لذئاب الأرض المتعطشة للإعتداء على الشعوب المستضفة.

وقد أكد الإسلام على هذه الركيزة ضمن آيات عدة منها:

1-في إطار الحديث عن قصة طالوت الذي اختاره الله ملكاً لبني اسرائيل ليدافع عنهم ويأخذ بحقوقهم وبعد ذكر قصته يقول الله سبحانه: ﴿وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمين‌[1] مما يؤكد على أهمية (الدفاع الشرعي).

فكان لابد للمسلمين ذلك اليوم وهم من بني إسرائيل أن يكون لهم ملك منتخب من قبل الله، ويقوم بإمتحان قومه – كما فعل ذلك على النهر – ومن ثم يحارب الأعداء فيقتل داوود عليه السلام جالوت وينصرهم الله من عنده، أما إذا لم يكن ذلك كله الذي يشكل دفع الكفار بالمسلمين لفسدت الأرض.

2-وفي سورة الحج بيان لجانبٍ آخر من جوانب الدفاع وهو الحفاظ على المقدسات، إذ هي بحاجة إلى من يدافع عنها، قال ربنا سبحانه ﴿أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى‌ نَصْرِهِمْ لَقَدير* الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيز[2] .

وهذه الآيات تؤكد على الدفاع المشروع الذي يعني ضرورة دفاع الإنسان عن نفسه وعرضه وأرضه ومقدساته، فمن إعتدي عليه مأذونٌ بالدفاع عن نفسه وبدفاعهم عن نفسه تبقى بيوت العبادة قائمة، فالمقدسات تسلم ما دام هناك مدافعون.

3-في سورة الأنفال تأكيدٌ على ضرورة إعداد القوة لمنع العدو من التعرض، قال الله سبحانه: ﴿وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‌ءٍ في‌ سَبيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُون‌[3] ، فالأمة التي لا دفاع لها ولا قوة لها أمةٌ لا تعيش، وهذه الحقيقة تؤكدها الكثير من آيات القرآن الكريم، ولكن ذلك كله لا يعني بناء أمة مقاتلة من أجل القتال، بل يمنع من المبادرة بالقتال أو ما يسمى اليوم بالأمن الوقائي، ويأمر الله سبحانه بالسلم لمن جنح لها، فقال: ﴿وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليم‌﴾[4] .

والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يبدأ أعداءه بقتال بل كان يدافع عن نفسه وعن المسلمين كما لم يبتدء حفيده الشهيد الإمام الحسين عليه السلام أعداءه بالنزال بل هم من بدأوه برشق السهام والنبال، وذلك لأن من يبدأ الحرب هو الذي يتحمل مسؤوليتها وكمسلمين يجب أن لا نتحمل مسؤولية الحروب.

فالركيزة الأولى للصلح العالمي هي ركيزة القوة الرادعة، وكما يقال أن الدفاع الشرعي أي دفاع الإنسان عن نفسه يشكل تسعين بالمائة من روادع الجريمة.

 

الركيزة الثانية: الإعتراف بالآخر

حين يعتقد الإنسان أن الناس خلقوا لخدمته و تلبية حاجاته، كما اعتقد اليهود ولا زالوا حيث قالوا: ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُون[5] ، فإنه لا يرى بأساً في الإعتداء عليهم وسلب حقوقهم.

وبالرغم من أن اليهود صرّحوا بهذا المعتقد إلا أن آخرين يعتمدون ذات العقيدة في سلوكهم وشعاراتهم بصورة خفيّة، وتنتج أمثال هذه النظريات الويلات للعالم.

وفي مقابل هذه النظرية الأنانية للبشر، ما قاله الله سبحانه للبشرية: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‌ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبير[6] .

ويبدو لي من خلال تفاسير كلمة (التعارف) أنها تعني الإعتراف المتبادل بالحقوق.

 

الخلط بين رؤى الدين وتطبيقات الحكّام

يقع البعض في خلطٍ بين توجيهات الدين وأوامره ونواهيه، وبين عمل حكام المسلمين الأوائل، فمن الخطأ أن تتخذ أفعال الحكام كدليل وحجة في حين أن الدين بريء من تلك الفعال، ومن ذلك الفتوحات وقتل الناس وإستعباد الناس وما أشبه، كله كان عملاً خاطئاً بعيداً عن روح الدين وتعاليمه، مما شكّل ردود فعل سلبية ضد الإسلام إلى يومنا هذا.

وإتخاذ أعمالهم دليلاً على أوامر الدين يشابه تماماً إتخاذ ما يفعله داعش مقياساً للإسلام، في حين أن القياس هو القرآن والسنة والعقل المستنير بهما.

 

الخلط بين الدعوة والإلجاء

كما أن هناك خلطاً آخر لابد أن لا يقع فيه المسلمون، وهو الخلط بين ضرورة الدعوة إلى الله وبين فرض الدين على الناس، فلابد أن يقوم المسلمون بالدعوة إلى الله وبيان عدم قبول غير الإسلام ولكن هذا لا يعني إكراههم على الدين، إذ لم يكره نبيٌ أو وصيٌ أو إمام أحداً من الناس على قبول الدعوة أو الإيمان بالله، وكم هي آيات الكتاب تؤكد على حرية الناس في اختيار دينهم دون إكراهٍ أو إلجاء.

وليس من حق أحدٍ أن يكره أحداً على الإيمان، بل يحدثنا القرآن بصراحة عن طوائف الأديان الأخرى، أنهم لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ الَّذينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى‌ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُون[7] ، وسنتحدث عن اهل الذمة والمعاهدين.

إذاً الدين الإسلامي دين الصلح والسلام، والركيزة الثانية المعتمدة لإيجاد الصلح والسلم العالمي هي ركيزة التعارف والإعتراف بالآخر وايجاد المواثيق، ولا يدل ذلك على الضعف بل يدل على الإيمان الصادق بديننا فالدين يأمرنا بأن نكون مسالمين، ويأمرنا بالصلح.

وإذا استطعنا أن نروج هذا الدين الإلهية ونبينه للمجتمعات الإنسانية، ستتخلص المجتمعات من الكراهية والبغضاء المنتشرة، وميزانيات التسلح الهائلة التي تبتلع خيرات البلاد والعباد، ولم ينتشر الإسلام بالكراهية بل بالمحبة والدعوة الحسنة كما دخل الإسلام في اندونيسيا التي هي أكبر دولة إسلامية دون سلاح وكثير من المجتمعات الأخرى أسلموا دون قهرٍ أو إكراه، و في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) يبين سير توماس بعضاً من تلك الحقائق.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo