< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: نفقة العامل في السفر حال الفسخ / أحكام المضاربة / كتاب المضاربة

 

"لو حصل الفسخ أو الانفساخ في أثناء السفر فنفقة الرجوع على نفسه‌بخلاف ما إذا بقيت و لم تنفسخ فإنها من مال المضاربة‌"[1]

 

لا يزال الحديث عن نفقات العامل وبالذات في السفر، وكما في غيرها من المسائل كذا هنا، لابد أن نرجع إلى المعايير التي أثبتناها في بداية الباب كلما شككنا في فرعٍ من الفروع، وبتعبير آخر نرجع المتشابه إلى المحكم من خلال فهم المعلوم والتعمق فيه للوصول إلى المجهول، كما هو طبيعي كل علم.

وتذكيراً بما سبق، قال الفقهاء بكون نفقة السفر على المال دون الحضر، لأن السفر يرجع في حقيقته إلى التجارة، وكل ما عُدَّ من التجارة كان من أصل المال، لأن الحاجة إلى المال هنا لصرفه للإسترباح، فما يرجع إلى الإسترباح من مصاريف تخرج من المال، فإذا ظهر ربح نجبر خسارة أصل المال أولاً لعدم تسمية الربح ربحاً من دون ذلك، ثم نقسم الباقي بينهما بعنوان الربح.

أقول: إذا كان الأمر كذلك، فنحن قد نضيع في التفاصيل، بل ينبغي علينا في كل قضية مشكوك فيها أن نعود إلى المعيار الأساس، وإن لم نفهم المعيار عدنا إلى المتعارف.

إلغاء المضاربة في السفر

إذا سافر العامل للمضاربة، فألغيت في الأثناء فسخاً أو إنفساخاً، فعلى من تكون نفقة العودة؟

أختلفت أقوال الفقهاء فمنهم من قال بكونها عليه، وأجيب عن دعوى الضرر أو الغرر ـ بكونه مسافراً للإستثمار ـ بأنه أقدم على ذلك مع علمه بجواز المضاربة وإمكان فسخها.

وقولٌ آخر بكونها على المال، لأن السفر المقصود هو مجموعه (ذهاباً وعوداً ونفقةً) وكله كان من أجل الإستثمار فكل نفقاته من أصل المال، كمن آجر محلاً للإتجار لمدة سنة ثم فسخ المالك في الأثناء فلا يتصور تحمل العامل أجرة المحل[2] .

وقولٌ ثالث بالتفصيل بين تكاليف السفر فتكون على المال، وبين نفقة العامل من أكل وشرب ونحوه، فتكون عليه، أما الأول فلما ذكرناه ولعموم صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، وحسنة أو مصححة السكوني المتقدمتين، المتضمنة كون نفقة السفر على المال.

وهما بعمومهما يدلان على نفقة السفر، نعم؛ هي لا تشمل المسافر بل السفر وحده، فالعامل مع إتصافه فصفة العمل تشمله الرواية وإذا فقدها لم يشمله النص، وهذا ما إحتمله المرجع الحكيم قدس سره في المستمسك[3] .

أما السيد اليزدي قدس سره فقد مال إلى الرأي الأول، حيث حمّل العامل كل النفقة.

نحن نقول: برجوع الأمر إلى العرف، مع التحقق من قصد العامل بكون سفره للإسترباح أم قصدٍ آخر، قال السيد اليزدي قدس سره: "لو حصل الفسخ أو الانفساخ في أثناء السفر فنفقة الرجوع على نفسه‌بخلاف ما إذا بقيت و لم تنفسخ فإنها من مال المضاربة‌"[4] .

ويبدو أن السيد مسترسل في رأيه هنا مع رأي الشيخ في المبسوط، والعلامة في القواعد[5] ، وكيف كان فنحن نرى أن السفر وكذا سائر الأمور المرتبطة بمصاريف التجارة مثل الضيافات والمصانعات والإتصالات وأجور الإقامة وشبهها، تتبع مصرف الإستثمار جميعاً، بل هذا معنى الإستثمار.

والذي يبدو من سياق أحاديث العلماء أنهم إعتبروا العلاقة بين العامل والمالك علاقة الأجير ومؤجره، في حين أن مبنى المضاربة هو مبنى الشراكة بأن يكون المال من جهة والعمل من أخرى، وبذا يكون القول الأول خلاف التوافق بينهما وخلاف القاعدة المصطادة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) كما أنه خلاف (الخراج بالضمان)[6] ، فالمضاربة مشاركة بين طرفين ومادامت كذلك فلابد أن نحترم العامل كما نحترم مال المالك.

 

التفاوت في قصد العقد

قبل بيان المسألة لابد أن نمهد بتمهيدين:

الأول: بين صورة العقد وحقيقته

في النظر إلى العقود مبدئان، أحدهما يعتبر صورة العقد الأصل فيه، في قبال من ينظر إلى حقيقة العقد وجوهره كأصلٍ متبع في تحديده.

فقد يتفق اللفظ (الصورة) والجوهر، وهنا لا كلام، وقد يختلف ما قاله عما قصده لأي سبب ـ لسبق لسانٍ أو مرضٍ أو ما أشبه ـ فإذا عرفنا أن قصده لم يكن ما تلفظ به خصوصاً إذ كان هناك تناقض في ذات الإيجاب (كما لو قال الموجب أبيعك الدار بكذا إلى سنة) حيث يتبين أن قصده الإجارة لا البيع، فثمة تناقض في الكلام، أو قال هذا المال مضاربة على أن يكون الربح كله لي، أو كله لك، فهنا لا ينسجم اللفظ مع طبيعة العقد، فما هو الحكم؟

هل نتبع القصد من العقد أم نتبع صورة الكلام؟ وهذا مفاد المسألة المبحوثة.

 

الثاني: صور تكامل المال والعمل

تكامل المال بالرجال (أو العمل) يتم بواحدة من ثلاث صور:

الأولى: المضاربة، وهي إعطاء المالك المال للعامل مع تقسيم الربح بينهما.

الثانية: البضاعة أو التبضع، بأن يكون الربح كله لصاحب المال، سواءاً كان للعامل أجرة المثل أو لا لكونه متبرعاً.

الثالثة: القرض، وهو عكس البضاعة، حيث يكون جميع الربح للعامل مع ضمان رأس المال.

وهذه الأقسام كلها صحيحة ولكن قد تتداخل باللفظ، كما لوا قال ضاربتك على أن يكون الربح لي أو لك، فالأول بضاعة والثاني قرض.

فإن كان قصده واضحاً وبيّناً فلا عبرة بخطأ اللفظ وسبق لسانه، أما إذا لم نعرف القصد وكان هناك تناقض بين اللفظ وقصده، فتقع المعاملة باطلة، أما إذا إختلفا في تحديد نوع العقد فهل هناك أصلٌ يرجع إليه؟

كلا، إنما المقام من باب الدعاوي المختلفة، حيث تنحل المسألة إلى دعوتان وكلٌ منهما يكون مدعياً من جهة ومنكراً لدعوى الآخر، قال السيد قدس سره في العروة: "قد عرفت الفرق بين المضاربة والقرض و البضاعة و أن في الأول الربح مشترك و في الثاني للعامل و في الثالث للمالك فإذا قال خذ هذا المال مضاربة و الربح بتمامه لي كان مضاربة فاسدة (لأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع) إلا إذا علم أنه قصد الإبضاع فيصير بضاعة (حتى لو خالف اللفظ لأنه قد يكون من باب سبق اللسان) و لا يستحق العامل‌أجرة إلا مع الشرط أو القرائن الدالة على عدم التبرع و مع الشك فيه و في إرادة الأجرة يستحق الأجرة أيضا لقاعدة احترام عمل المسلم (إذ يستحق العامل أجراً بالأصل من الناحية العقلية، ولقوله سبحانه: ﴿لِلرِّجالِ نَصيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا[7] ) و إذا قال خذه قراضا و تمام الربح لك فكذلك مضاربة فاسدة إلا إذا علم أنه أراد القرض (فسبق إليه لسانه بالقراض) و لو لم يذكر لفظ المضاربة بأن قال خذه و اتجر به و الربح بتمامه لي كان بضاعة إلا مع العلم بإرادة المضاربة فتكون فاسدة و لو قال خذه و اتجر به و الربح لك بتمامه فهو قرض إلا مع العلم بإرادة المضاربة ففاسد (لما سبق) و مع الفساد في الصور المذكورة يكون تمام الربح للمالك و للعامل أجرة عمله إلا مع علمه‌ (بالفساد)"[8] .

وقد ذكرنا مراراً في هذا المجال عن المرجعية في العقود وقلنا أنها إما تكون الشرع الذي أكد على عدم بخس الناس أشيائهم وتوي حق المسلم، وإعطاء كلٍ نصيبه، وإما العرف بحسب ما تعارف عليه.

أما أن نقول بعدم إعطاء العامل سوى أجرة المثل ففيه إشكال من الناحية العرفية أولاً، وثانياً من جهة عدم إستقلال المال في الربح، فللعمل مدخلية في الربح، بل ربما تكون الجهود المبذولة أدعى وأدخل في عملية الإسترباح، وفي هذا المجال بحثٌ مفصل في باب المزارعة والمساقاة والغصب، فما ينتج من التكامل بين المال والعمل يرجع إلى من؟

فإما نرجع إلى العرف فيحدد مقدار إستحقاق العامل بحسب نوع عمله، أو بحسب ما اتفقا عليه لأن ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وإنما أقدم العامل بناءاً على ذلك.

نعم؛ قد يكون العكس أيضاً بأن لم يكن للعامل دورٌ في حصول الربح، فلا يرى العقلاء إستحقاقه شيئاً سوى أجرة المثل، فقانون العدل هو المتبع حينئذ.

أما إطلاق الحكم على كل الحالات فمشكل، والله العالم.

 


[2] . ربما يقال بقوة ذلك فيما لو كان الفسخ من المالك، أما إذا كان من العامل فربما يكون عليه.[ المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo