< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

39/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: عدم إذن المالك بمضاربة العامل / أحكام المضاربة

 

ذكرنا إختلاف الفقهاء في تعيين الربح حال ربح المضاربة مع منع المالك من مضاربة العامل الأول مع آخر، ولأن الحديث متشعب ومفصل إرتأينا أن نذكر المباني الأساسية المعتمدة في مثل هذه المسائل والتي تنفع هنا كما هي سيّالة في عموم العقود التي يتبين بطلانها بعد حين.

 

الأول: إقامة القسط

ربنا سبحانه يأمرنا بإقامة القسط والعدل في كتابه حيث يقول: ﴿وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين‌﴾[1] ، ويقول سبحانه: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌﴾[2] ، ويؤكد الرب في كتابه على أن السماوات والأرض قامتا على أساس الحق حين يقول: ﴿ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى‌﴾[3] ، والعدل جزءُ من الحق كما أن القسط يتفرع من العدل.

فلما كان محور وجود الكون والخليقة، وحتى الإنسان هو العدل يأتي السؤال عن كيفية فهم العدل، وتعيين صاحب الحق؟

نقول: هناك طرقٌ ثلاثة لمعرفة ذلك، هي: الشرع والعقل والعرف.

أما الشرع فيعطي القواعد العامة، وهي تستجلي العقل الموجود لدى الجميع، ذلك العقل المحتاج إلى ما يثير دفائنه، فيكون الشرع مثيراً ومبلوراً للعقل، ويتجلى العقل أكثر بالعرف، لأن العرف عبارةٌ عن عقولٍ مجتمعة، فإيماننا بالمشورة وتراكم التجارب والإتعاظ بتجارب الآخرين ناشئٌ من إعتمادنا على عقول الآخرين.

نعم؛ قد يخطئ العرف في بعض الأحيان ولكن في الغالب يصيب الناس الحق في شؤون حياتهم، خصوصاً إن كانوا متشرعة وهو المسمى بسيرة المتشرعة، بل حتى عرف العقلاء المسمى بسيرة العقلاء هو الآخر معتمدٌ لإصابته غالباً.

فالعقل المستنير بنور الوحي والمعان من قبل العرف، يمكنه أن يصل إلى تشخيص الحق وإقامة العدل، خصوصاً في الحقوق المستجدة مثل حق النشر والإختراع وحق الطيران في الأجواء والإبحار في المياه الإقليمية و..، هذه الحقوق التي أفتى فيها بعدم الإستحقاق بعض الفقهاء سابقاً وجواز إرتكابها، أقول: كيف يمكن أن نصحح هذه الحقوق؟ فهل الحق منحصرٌ بما عرفه الناس سابقاً أم يعم الحقوق الجديدة، خصوصاً مع إعتراف العقل بها وعدم إنكار الشرع لها بل تأكيد عموماته على إعتبارها حقاً مثل قول الله سبحانه ﴿وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُم‌﴾[4] ، أو لا يتوى حق امرءٍ مسلم.

فالحقوق هذه يعرفها المصادر الثلاث التي تنتهي في الحقيقة إلى مصدر واحد وهو العقل المتبلور بالشرع والمؤيد بالعقول الأخرى (العرف)، ويحكم بوجوب إحترامها.

وهذا الحكم يصدق على ما نحن فيه أيضاً بوجوب إحترام حق العامل الثاني وإن بطلت المضاربة الثانية.

الثاني: الإستيفاء

في أبواب الفقه بحوثٌ متناثرة عن مسألة الإستيفاء:

     فمنها في باب الغصب حال توالي الأيادي، فمن حق المغصوب منه مطالبة الجميع، وتعود كل يدٍ إلى السابقة، حتى تصل إلى اليد التي عليها قرار الضمان (والتي هي المستفيدة من العين).

     ومنها ما في باب الفضولي ما لو قام شخص بعملٍ فضولاً مع تبرعه به دون أن يكون متبرعاً بالنفقة التي أنفقها في سبيل ذلك، كما لو أنقذ نفساً بإدخالها المستشفى والإنفاق عليها، أو أطفأ حريقاً مع إنفاقه في سبيل الإطفاء، ففي هذه الحالات له المطالبة بالمال المنفق، لأنه لم يكن متبرعاً بها – وإن كان متبرعاً بالعمل- وعلى المنتفع لأن يفي له.

ودليل الإستيفاء عند القانون الوضعي الحديث هو ما يعبر عنه بـ (الإثراء بلا سبب)، أما عندنا فيمكن الإستدلال له بقاعدة (لا ضرر ولا ضرر) فهي قاعدة واسعة الدلالة، عظيمة الفائدة، ومن دلالاتها أن المراد من لا ضرر هو نفيه سابقاً ولاحقاً، أي جبر الضرر، فإذا أضرّ شخصٌ بآخر فمفاد القاعدة وجوب جبره ليتحقق لا ضرر، والجابر فيما نحن فيه هو المنتفع.

وفيما نحن فيه لو ربحت المضاربة الثانية – مع فسادها لعدم الإذن – قيل بكون الربح كله للمالك، وعلى العامل الأول أن يدفع للعامل الثاني أجرة المثل، فهذا إضرارٌ بالعامل الأول مع عدم حصوله على ربحٍ في البين، ويبدو أن قاعدة (الخراج بالضمان) تشمل المقام أيضأً.

 

الثالث: الإقدام على الضرر

يتكرر من الأعلام قولهم بأن المقدم على الإضرار بنفسه مسقطٌ لحقه، فما المستند في ذلك؟

يبدو أن عدم إستدلالهم لها يرجع إلى وضوح المسألة لديهم وإرسالها إرسال المسلمات، والذي يبدو عندنا أن لكل إنسانٍ حقين، هما حق الإمتلاك وحق الإعراض، فليس حقه من جهة واحدة، بل له أن يعرض عما يملكه كما له الحق بحيازة الأرض الموات، فحق الإعراض يقابل حق الإستملاك.

ومن هنا، فمن إنكسرت سفينته بمتاعه، فهو يعرض عنها وبالتالي للآخر أن يغوص ويستحوذ عليه، وكذا من قام من موقعه في الوقف فقد أعرض عن حق السبق عنده.

وببلورة هذه الرؤية نستفيد منها قاعدة الإقدام، فالإقدام على الضرر ومنه التبرع ـ لأنه في حقيقته إضرارٌ بالنفس ـ يمكن أن يسقط حق المرء، ولكن في بعض الأحيان لابد أن تدرس القضية بصورة أعمق، فلو كان العامل الثاني – في ما نحن فيه – عالماً بفساد المعاملة وأقدم عليها وعمل فيها رغم ذلك، فهل نسقط حقه من الربح مطلقاً؟

نحن نقول: ليس الأمر سواء، فبعض الإحيان لو علمنا بتبرعه في العمل يكون مسقطاً لحقه، أما إن لم يكن متبرعاً وهو طامعٌ في الربح فإن مجرد إقدامه قد لا يكون مبرراً لإسقاط حقه.

وهذا لا يخص المقام، فإقدام الإنسان على الإضرار بنفسه دون الإعراض عن حقه لا يعني إسقاط حقه مطلقاً بل ذلك بحاجة إلى دليل، وقد لاحظت الكثير من الفقهاء يترددون في بعض صور الإقدام من إسقاط حق المقدم، والله العالم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo