< قائمة الدروس

درس فلسفة الأصول - الأستاذ رشاد

35/01/12

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: نظريّة الخطابات القانونية ـ مقترحاتنا في تحسين تقرير النّظريّة وتنسيقها في قوالبها القشيبة / 21
الأساس الثّالث للنظريّة
تشكّل رسالية الدين وشموله للأصول الخمسة الدخيلة في فهم الرسالة الإلهية الأساس الثالث من أسس هذه النظرية. ويترتّب على هذا الأساس ما يلي:
الدين رسالة هداية من مصدر الكون والحياة موجّهة إلى الإنسان، والدين رسالة مشتملة على منظومة من القضايا والتعاليم، ومبعوثة من مرسِل قدسي بطرق خاصّة إلى الإنسان من حيث كونه مخاطباً بهذه الرسالة.
إنّ عملية بعث الرسالة تنطوي على خمسة أضلاع هي: «مرسِل الرّسالة»، «مادّة الرّسالة» ومضمونها، «طرائق الرّسالة» (وسائل و وسائط إيصال الرّسالة)، «نطاق الرّسالة» وسنخها، مخاطب الرّسالة(بما هو «المتلقّي» وبما هو المکلّف). ونعبّر إصطلاحاً عن هذه الأطراف بـ«الأضلاع الخمسة»: «معرفة المصدر»، «معرفة الدين»، «معرفة الطرائق»، «معرفة النطاق»، «معرفة المخاطب»، وسيأتي مزيد من الشرح للأصول المذكورة.
لكلٍّ من الأصول الخمسة الآنفة طبيعته ومميزاته ومواصفاته الخاصّة، فتكون سهيمة ومؤثّرة في فهم الرسالة (تكوّن المعرفة) شئنا أم أبينا، إرادياً أو لاإرادياً. وعليه، يتعذّر فهم الرسالة الإلهية (القضايا الدينية) من دون لحاظ حصيلة منهجية صفات تلك الأصول .
الأساس الرابع للنظرية
الأساس الرابع لهذه النظرية عبارة عن «ابتناء الكشف والتطبيق الصائب والجامع للدين على الكشف والتطبيق الصائب والجامع لطبيعة ومواصفات الأصول الخمسة». ولا ريب في أنّ هذا الأساس- شأنه شأن الأسس الثلاثة المتقدّمة- ذو منحى وصفي وتحليلي، وخاضع لرؤية تنطلق من التوصية والتجويز؛ فهو بمقتضى الاتّجاه الأول وبحيثية معيّنة مرتبط بـ «فلسفة الدين»، ومن حيثية أخرى يمثّل مدّعى متّصلاً بفلسفة المعرفة الدينية؛ لكنّ هذا الأساس بمقتضى الإتّجاه الثاني يعدّ من جنس بحوث «مباني منطق اكتشاف الدين». وكيف ما كان، فمضمون هذا الأساس في الصور الثلاث جميعاً ما هو إلا مدّعى داخل في مسائل الفلسفة المضافة (فلسفة العلوم) في دائرة البحوث الدينية.
بيان ذلك: حيث أنّ فلسفة الدين تحمل على عاتقها تحليل الأحكام الكلية لأمّهات مسائل الدين تحليلاً عقلانياً، وانطلاقاً من أنّ البحث القبلي (قبل مواجهة مصادر الدين) حول طبيعة وصفات الأصول الخمسة للرسالة الإلهية مستمدّ إلى حدّ بعيد من فلسفة الدين، ومبتنٍ على هذا العلم (على أنّ ارتباط وتناسب كلّ واحد من الأصول المذكورة بفلسفة الدين يختلف عمّا سواه شدّةً وضعفاً، حتّى يصل إلى أدنى مستوياته في مبدأيْ المعرفة والمخاطب)، فإنّ مضمون الأساس الرابع ومدّعاه يمتزج بفلسفة الدين ويذوب فيها؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: بما أنّ فلسفة المعرفة الدينية تتكفّل بتحليل الأحكام الكلية لأمّهات مسائل المعرفة الدينية تحليلاً عقلانياً، والبحث التالي المبنيّ على أنّه لا مناص من تأثّر المعرفة الدينية برسالية الدين والعناصر المكوّنة لأصول الرسالة والبعثة يعدّ حديثاً عن النظام وكيفية تكوّن المعرفة الدينية ومن باب تشخيص الأصيل عن غير الأصيل، فإنّ ذلك يكون نوعاً من أنواع الحكم بشأن عدد من أمّهات مسائل المعرفة الدينية، ويصنَّف بهذا اللحاظ ضمن خانة مباحث فلسفة المعرفة الدينية.
ومن جهة ثالثة: لما كانت أسس منطق اكتشاف الدين تبحث فيما ينبغي وما لا ينبغي في منهجية فهم الدين (في مقام التوصية ومن خلال رؤية قبلية)، وتتحدّث عن تصوّرات صياغة منطق فهم الدين، وتتناول بحث الواجبات والمتطلّبات والضرورات المنبعثة من أضلاع الرسالة الإلهية الخمسة؛ فإنّ هذه المباحث تندرج في زمرة مسائل الأسس المنطقية.
وأخيراً ومن جهة رابعة أيضاً: بما أنّ فلسفة منطق فهم الدين (في مقام التوصيف وضمن إطار الرؤية البعدية) بصدد كشف الظنون والتصوّرات المؤثّرة على منطق فهم الدين الموجود، فإنّه يمكن اعتبار هذا البحث من جملة مباحث فلسفة منطق فهم الدين.
وعلى هذا الأساس، يمكن تقرير هذا الأساس بثلاثة أو أربعة وجوه مختلفة، فينتظم بحسب كلّ تقرير في سلك أحد العلوم الثلاثة أو الأربعة، ويدخل في جملة مسائلها. وحيث أنّه لا ضرورة هنا لطرح جميع التقريرات المختلفة بما لا يسعه المقال، فلا مناص لنا من الاكتفاء هنا بعرض تقرير مجمل ومتسامح لهذا الأساس، ونحن نصبو نوعاً ما إلى تقديم تقرير يكون أساساً لصياغة وتصميم منطق الاكتشاف المنشود.
طبقاً للأساس الرابع للنظرية، يمكن التوصّل إلى كشف صائب وجامع للقضايا والتعاليم الدينية واستكشاف السبيل الفاعل والمعاصر لتطبيق الدين في حالة تحصيل التلقّي الصائب والجامع عن ماهية الأصول ومختصّاتها، واستقراء عناصرها واستقصائها ومعرفة مكوّناتها، وإجراء تحليل وتنسيق وتبويب وتقعيد لمدى تأثير خصال الأصول وخصائص المكوّنات في عملية الفهم والفعل الديني (تحقيق الدين وتحقّقه)، ومن خلال الحيلولة دون تأثير المتغيّرات الدخيلة بغير حقّ.
وبناءً على التقرير الأخير الناظر إلى نظام تكوّن المعرفة الدينية وطريقة هذا التكوّن، وكذلك من زاوية دراسة أسس علم منطق فهم الدين، يمكن القول: لا شكّ في أنّ المعرفة الدينية بالمعنى الأعمّ تتبلور تحت تأثير طبيعة وصفات الأصول الخمسة والعلاقة في ما بينها، أكثر من تأثير أيّ عامل آخر، كما أنّ جلّ ألوان المنهجية الشائعة لفهم الدين تتأثّر بشدّة- بشكل أو بآخر- بهذه الخصال والخصائص.
إنّ تأثير الأصول وعناصرها ومكوّناتها في عملية تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها يتمّ بالطريقتين: الأفقية والعمودية (الشبكية والهرمية)، وعلى ثلاثة مستويات: داخل العنصر الواحد، وبين العناصر المختلفة، وخارج نطاق العناصر. وفي ما يلي نحاول بسط الكلام وتوسيع إطار البحث في الأمور المذكورة آنفاً:
معنى كون الأصول وعناصرها أفقية هو أنّها في عرض بعضها البعض وفي مستوى واحد من التأثير ولعب دور في إنتاج المعرفة الدينية. فعلى سبيل المثال، العقل يتدارك حجّية الكتاب في إطار أساس المعرفة، كما أنّ الكتاب يثبت حجّية السنّة؛ فكلّ واحدة من هاتين الحجّتين عبارة عن أمر معرفيّ يعمل على إنتاج المعرفة بموازاة الأمر الآخر وبصورة مستقلّة. فالعقل يوجب إبراز المعنى المنطوي في صلب النصّ عن طريق إقرائه واستنطاقه، وفي المقابل تسهم الإفادة من المعنى المستخلص من النصّ في إثراء العقل ورفع مستوى الإدراك لديه، فيقوم باستكشاف الطبقات السفلى من المعرفة الدينية. ومن هنا، يحصل تبادل بين الكتاب والسنّة نظير التبادل العمودي والعمقي الموجود بين العقل والنقل، وتتواصل هذه المسيرة الحلقية- الحلزونية دون انقطاع وبشكل «شبه غير متناهٍ».
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الأصول والعناصر المكوّنة لها توجب ترسيخ وتمتين المعرفة الدينية وتوسيعها أفقياً «بصورة شبكية» وعمودياً «بصورة هرمية» في سياق تكاملي منبسط ومستمر. وهكذا يتّضح أنّ المعرفة الدينية أساساً قابلة للتطوّر والتوسّع وقطع مدارج الكمال، بل و- أحياناً- الترصين والتصحيح كذلك؛ ولا ريب في أنّ سلامة النتائج المترتّبة على هذه المرحلة والثمار المستخلصة من هذه المسيرة رهن بالحفاظ على الضوابط وتوفّر الشروط المذكورة في البيان الإجمالي للأساس الرابع.
وفي ضوء هذه الإيضاحات، يتجلّى أنّ النتائج والاستنتاجات المستقاة من الأصول ومكوّناتها كثيرة ومتنوّعة للغاية، بحيث يشقّ إحصاؤها وجردها جميعاً؛ ذلك أنّ كلّ واحد من الأصول بمقدوره توليد قائمة طويلة من المعارف، ثمّ ما إن تشرع بالتعاطي مع بعضها البعض إقراءً واستنطاقاً حتّى تفرز كمّاً هائلاً من المعارف الأخرى ضمن وتيرة تصاعدية. وبهذا تتطوّر المعرفة الدينية ويتّسع نطاقها وتزداد تنوّعاً وتأصيلاً في ظلّ التنمية والتسلسل في استيلاد المعنى والمعرفة الحاصلة في سياق التأثير والتعامل المتبادل والمستمرّ للأصول والعناصر المكوّنة لها.
إنّ كلّ أساس مكوّن من عناصر متعدّدة، وكلّ عنصر مؤلّف من مجموعة أجزاء ونوى متنوّعة؛ فمن باب المثال أن أساس المعرفة مكوّن من عناصر ومكوّنات عديدة (الفطرة، والعقل، والوحي، و...)، وكلّ واحد من عناصر هذا الأساس أيضاً (كعنصر العقل مثلاً) مؤلّف من مجموعة من الأجزاء الصغيرة (نحو القواعد والأدلة العقلية). وعلى هذا، فإنّه يمكن تقسيم تأثير الأصول المختلفة والتعاطي بين مستوياتها الثلاثة بالشكل التالي:
التأثير والتعاطي «داخل العنصر الواحد» (بين الأجزاء): لكلّ جزء من العنصر الواحد صلة إنتاجية مع الجزء الآخر منه، بمعنى أنّ الجزئين يوجبان إنتاج المعرفة الدينية وتنميتها وتطوّرها في سياق تأثيرهما الإنتاجي والتعاطي مع بعضهما البعض. ويطلق على هذا اللون من التأثير والتعاطي اسم «التأثير والتعاطي داخل العنصر الواحد»، كما في الوظائف والنتائج المترتّبة على التعاطي بين القواعد والأدلة العقلية داخل دالّ العقل.
التأثير والتعاطي «بين العناصر المختلفة»: مرادنا النتائج المنطقية - المعرفية داخل الأساس نفسه الناشئة من دور الإنتاج وإعمال النسبة بين العناصر المنتمية إلى أساس واحد ولحاظ العلاقة التي تربطها مع بعضها البعض، وذلك من قبيل التأثير والتعاطي بين العقل والنصّ في إطار أساس المعرفة.
التأثير والتعاطي «خارج نطاق العناصر»: نعبّر عن التأثير والتعاطي المتبادل بين الأصول بالتأثير خارج نطاق العنصر. فمن جهة، لما اعتبرنا الشارع حكيماً في أساس «معرفة المصدر»، لا بدّ لنا من أن نسم فعله وقوله (أي التكوين والتشريع) بالحكمة أيضاً. ومن جهة ثانية، وحينما اعتبرنا الإنسان - بمقتضى الحكمة الإلهية- متنعّماً بموهبة العقل في أساس «المخاطب»، فلا غرو أنّنا سنعدّ إمكان توظيف العقل في فهم التكوين والتشريع عملاً وجيهاً في أساس «المعرفة».
ومن هذا المنطلق، ثمّة أنواع مختلفة من التأثير والتعاطي العقلاني بين الأصول، ولنا تبويبها بصورة إجمالية إلى نحوين: إنتاج «استقلالي/ عمودي»، وإنتاج «تبادلي/ أفقي».
كما يمكن تصنيف نتائج التأثير والتعاطي لكلّ واحد من الأصول، بالإضافة إلى عناصر كلّ واحد منها بصور مختلفة؛ فمن باب المثال يمكن تقسيم وظائف عنصر العقل إلى سبعة أو ثمانية أقسام، وبوسعنا تقسيم الوظائف الآلية- الأصالية المشتركة بين الأصول في الجملة إلى الأقسام التالية:
أولاً: الوظيفة المعرفية (استكشاف المعرفة وإنتاجها).
ثانياً: الوظيفة الحجّية (إدراك وإثبات الحجّية لباقي الأصول والعناصر من قبل أحد الأصول والعناصر).
ثالثاً: الوظيفة المعنائية (إستنطاق باقي العناصر والأصول ).
رابعاً: الوظيفة المنهجية (بلورة مسارات المنهجية وتقعيدها).
خامساً: الوظيفة التنظيمية (تشكيل التنظيمات وإدارة النظام).
سادساً: الوظيفة التقييمية (تصويب الاختبارات وتشخيص الأصالة).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo