الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
33/07/08
بسم الله الرحمن الرحیم
الفقه \ كتاب الطهارة \ النجاسات العشرة\ البول والغائط
كان الكلام في ذكر أدلة الطهارة وأدلة النجاسة للدواب الثلاثة والآن كيف نجمع بينها
نقول: أنّه إن ثبت عدم القول بالفصل بين الروث ، والبول ، فنحكم حينئذٍ بطهارة البول لذهاب الجميع إلى طهارة الروث ، ونحمل الأخبار الظاهرة في النجاسة على استحباب التنزّه عنه
وأمّا إذا لم يثبت عدم القول بالفصل ، بأن وجد فصل بين الروث ، والبول ، فنقول: مقتضى الإنصاف أيضا القول بالطهارة ، وذلك لحسنة ابن بكير قال: ( سأل زرارة أبا عبد الله ع عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابًا - زعم أنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله - : أنّ الصلاة في دبر كلّ شيء حرام أكله ، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه ، وكلّ شيء منه ، فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة ، حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلذ الله أكله ، ثمّ قال : يا زرارة ، هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاحفظ ذلك يا زرارة ، فإن كان ممّا يُؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه ، وكلّ شيء منه ، جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكّاه الذابح ، وإن كان غير ذلك ، مما قد نُهيت عن أكله ، وحرم عليك أكله ، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد ، ذكّاه الذابح أو لم يذكه )
[1]
وتوضيح ذلك: أنّ الحسنة صرّحت بجواز الصلاة في بول وروث ما يؤكل لحمه ، والمراد بما يُؤكل لحمه ما كان مقابلًا لما حرم الله أكله ، وليس المراد بما يُؤكل لحمه ما أعِدّ للأكل فقط ، بحيث تخرج الدواب الثلاث : الفرس والبغل والحمار ، لكونها أُعدّت للركوب ، لا للأكل ، بل المراد منها ما عرقته ، بقرينة المقابلة للثعالب وغيره ، والحسنة إن لم تكن نصًا في ذلك فهي ظاهرة جدًّا .
وعليه: فالدواب الثلاث داخلة في عموم جواز الصلاة ممّا يؤكل لحمه ، ويستفاد منها طهارة بولها وروثها ، وإلّا لو كانا نجسَين لكانت الصلاة فاسدة .
والخلاصة: أنّ الحسنة تكاد تكون نصًّا في العموم ، أي من حيث شمولها للدواب الثلاث ، وهي وإن لم تكن آبية عن التخصيص بأخبار النجاسة ، إلّا أنّ الإنصاف إبقاؤها على ظاهرها ، وحمل أخبار النجاسة على استحباب التنزّه عنهما ، وذلك لعدّة أمور يكون مجموعها موجبًا للاطمئنان بما قلناه ، وإن لم يكن كلّ واحد منها حجّة في نفسه .
منها: الإجماع المتقدّم على الطهارة .
ومنها: إعراض المشهور عن أخبار النجاسة ، بل قد عرفت أنّ جميع المتقدّمين قائل : بالطهارة ، إلّا ابن الجنيد ، وأما الشيخ فقد عرفت أنّه في أكثر كتبه قائل : بالطهارة ، ولعلّه قد رجع عمّا في النهاية مع ما قد عرفت من كونها ليست كتابَ فتوى .
ومنها: موافقة أخبار النجاسة لمذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف .
ومنها: جريان السيرة على التعامل معهما معاملة الطهارة ، لكثرة الابتلاء بهما ، لا سيّما في الأزمنة السابقة ، فلو كانت الأبوال والأرواث نجسة لظهر ذلك وبان ؛ ولم ينحصر المخالف من المتقدّمين ، إلّا في واحد .
ومنها: أصالة الطهارة في الأشياء .
ومنها: أصالة البراءة عن وجوب إزالة بولها وروثها ، وهما موافقان للقول بالطهارة .
ومنها: أنّ عدم تخصيص حسنة ابن بكير موافق لقاعدة دوران النجاسة والطهارة على حرمة اللحم ، وحلّيته المستفادة من النصوص الكثيرة ، بل يظهر أنّ هذه القاعدة من المسلّمات ، إلّا ما خرج منها بدليل صحيح لا شائبة فيه .
وبالجملة: هذه الأمور بمجموعها توجب الاطمئنان بما قلنا ، والله العالم بحقائق أحكامه .
قال المصنف: ( والمني والدم من ذي النفس )
يقع الكلام في أمرين :
الأول: في المني .
والثاني: في الدم .
أمَّا الأمر الأول: ففي "المدارك": ( أجمع علماؤنا على نجاسة المني من كلّ حيوان ذي نفس سائلة ، سواء في ذلك الآدمي وغيره ، الذكر والأنثى ، حكى ذلك العلامة في "التذكرة" صريحا وفي المنتهى ظاهرا ... )
وفي الجواهر: ( إجماعا محصّلًا ومنقولًا صريحًا في "الخلاف" ، و"التذكرة" ، و"كشف اللثام" ، وعن "النهاية" ، و"كشف الالتباس" ، وظاهرا في "المنتهى" ، وغيره ... ) .
أقول: قد تسالم الأعلام قديمًا وحديثًا ، وفي جميع الأعصار والأمصار على نجاسة المني من ذي النفس ، سوءا أكان مأكول اللحم أم لا ، وبذلك خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه ، وأصبحت من المسلّمات التي لا يعتريها الشكّ ، وهذا هو العمدة في نجاسة مني غير الإنسان من ذي النفس ، وإلّا فالأخبار المستدلّ بها على نجاسة المني ، وإن كثرت جدًّا ، إلّا أن المتبادر منها مني الإنسان ، بحيث صار هذا التبادر ، كالعيان لا يحتاج إلى بيان ، وإليك جملة من هذه الأخبار :
منها: حسنة الحلبي عن أبي عبد الله ع قال: ( إذا احتلم الرجل ، فأصاب ثوبه مني ، فليغسلِ الذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه مني ، ولم يستيقن ، ولم يرَ مكانه ، فلينضحه بالماء ، وإن استيقن أنّه قد أصابه مني ، ولم يرَ مكانه ، فليغسل ثوبه كلّه ، فإنّه أحسن )
[2]
.
ومنها: موثّقة سُماعة ، قال: ( سألته عن المني يصيب الثوب ، قال : اِغسل الثوب كلّه إذا خفي عليك مكانه قليلًا كان ، أو كثيرًا )
[3]
وقد عرفت أنّ مضمرات سماعة مقبولة ، وكذا غيرهما ممّا هو من هذا القبيل الذي مورده المني يصيب الثوب ، والمتبادر منه مني الإنسان إذا أصابه الثوب والبدن من مني غير الإنسان أندر من النادر ، بل لا يبتلى به عادة .
وأمّا صحيحة محمّد بن مسلم: عن أبي عبد الله ع قال: ( ذكر المني ، وشدّده ، وجعله أشد من البول ، ثمّ قال : إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة ، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعدُ فلا إعادة عليك ، وكذلك البول )
[4]
فقد يقال : إنّها شاملة لمني غير الإنسان حيث جعله أشدّ من البول ، وعليه فـ "اللام" في كل من المني والبول للماهية ، أي الجنس .
وحاصل المعنى : أنّ كلّ ما حكم بنجاسة بوله فيكون منيّه أشدّ نجاسة .
وفيه:
أوّلًا: أنّ القرينة الحالية تشهد بتبادره لمني الإنسان ، لما عرفت أنّ إصابة مني غير الإنسان للثوب والبدن في غاية الندرة ، ولعلّه لندرته أو لعدم الابتداء به عرّف صاحب القاموس المني بأنّه ماء الرجل، والإمراة ، وعرفه في الصحاح : بأنه ماء الرجل .
وتعريفهما وإن لم يمنع من صدق المني على مني غير الإنسان إلّا أنّه يؤيّد ما قلناه .
وعليه ، فيصبح المعنى بعد التبادر أنّ مني الإنسان أشدّ من بوله لا مطلقًا ،.
وثانيًا: يحتمل ، بل لعلّه الظاهر أنّ المراد بالتشديد إنّما هو بالنسبة للإزالة ، أي إنّ المني لأجل ثَخَانته ، ولُزُوجته يحتاج في إزالته إلى مزيد كلفة ، بخلاف البول .
[1] - الوسائل باب2 من أبواب لباس المصلي ح1 .
[2] - الوسائل باب16 من أبواب النجاسات ح4
[3] - الوسائل باب16 من أبواب النجاسات ح6
[4] - الوسائل باب16 من أبواب النجاسات ح2