< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

33/07/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 الفقه \ كتاب الطهارة \ النجاسات العشرة\ الدم
 كان الكلام فيما سبق في الروايات الدالة على ان كل دم من ذي نفس سائلة هو نجس
 والأخبار الكثيرة الواردة في نجاسة دم الجروح والقروح والحيض والنفاس والاستحاضة ، وغيرها ، فإنّه يستفاد من هذه الأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة نجاسة مطلق الدم ، من غير مدخلية لخصوصيّة هذه الموارد من الحكّ ، ونحوه ، فإن التأمّل فيها يفضي إلى نجاسة دم الإنسان من حيث هو ، وكذا الكلام في سائر الحيوانات التي لها نفس سائلة ، فإنّه يستفاد من الأخبار نجاستها كذلك .
 لا يقال: إنّ إلغاء خصوصية المورد يحتاج إلى دعوى علم الغيب .
 فإنه يقال: إنّ العرف يفهم من هذه الأخبار ، بمساعدة بعض القرائن الخارجية ، حيث ورد نفي البأس عن دم البق والبراغيث والسمك ، وكمغروسيّة نجاسة الدم في إذهان المتشرّعة ، ومعروفيّة هذه النجاسة لدى السائلين ، حيث كانوا يسألون الأئمة ﭺ عن حكم الدم من تقييد بشيء : أنّ من حيث هو نجس .
  وعليه: فهذا الدليل قوي .
  الأمر الثالث: ما ورد في بعض الأخبار من ذكر لفظ الدم من غير تقييد بشيء ، كالنبوي المروي في "الذكرى" ، وغيرها ، كـ"المنتهى" ( إنّما يغسل الثوب من البول والدم والمني ) ، ولكنّه ضعيف جدًّا ، إذ لم يرد من طرقنا .
  أضف إلى ذلك: أنّ الحصر فيه إنّما هو بالنسبة لغير الثلاثة ، وأمّا أن الدم نجس مطلقًا ، من أي سبب كان ، فليس في مقام البيان من هذه الجهة .
 ومثله أيضًا: بعض الأخبار الواردة في مقام بيان حكم آخر بعد الفراغ عن نجاسة الدم ، كموثّقة عمّار عن أبي عبد الله - في حديث - قال: ( كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا شرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دمًا ، فإن رأيت في منقاره دمًا ، فلا تتوضّأ منه ، ولا تشرب ) [1]
 فإنّها واردة في مقام جعل الحكم الظاهري عند الشكّ في وجود الدم المفروغ عن نجاسته ، وليست في مقام بيان أنّ الدم مطلقًا نجس
 ومثلها: صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر ع قال - في الدم يكون في الثوب - : ( إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم ، وكان رآه فلم يغسل حتّى صلى فليُعِد صلاته ، وإن لم يكن رآه حتّى صلّى فلا يعيد الصلاة ) [2] .
 ومثلها أيضًا: حسنة ابن مسلم قال: ( قلت له : الدم يكون في الثوب عليَّ ، وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته ، وعليك ثوب غيره ، فاطرحه ، وصلّ في غيره ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامضِ في صلاتك ... ) [3] .
 ومثلها: صحيحة ابن بزيع قال: ( كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا ع عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فتقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شيء من عذرة ... ) [4]
 فإنّ الظاهر من السؤال في جميع هذه الأخبار علم السائل بالنجاسة ، وأنّ السؤال كان عن تأثير الدم في هذه الموارد ، وليست في مقام بيانِ وتشريعِ نجاسة مطلق الدم .
  وبالجملة: فإنّ هذه الأخبار مسوقة لبيان حكم آخر ، فلا يصحّ التمسك بإطلاقها لإثبات نجاسة مطلق الدم ، فإنّ من شرط التمسك بالإطلاق عدم كونه مسوقًا لبيان حكم آخر .
  هذا كله بالنسبة لحكم الدم الذي له نفس سائلة
 وأمّا ما لا نفس له سائلة ، كالسمك ، ونحوه:
  فالمشهور بين الأعلام طهارة دمه ، بل في "الجواهر" : للإجماع محصّلًا ، ومنقولًا ، مستفيضًا إن لم يكن متواترًا ، على طهارته خصوصًا في السمك .
  وفيه: أن الإجماع المنقول إن لم يثبت نقله بالتواتر يصلح للتأييد فقط ، كما عرفت سابقًا .
  وقد استدل أيضًا للقول بالطهارة بعدّةٍ من الأخبار :
  منها: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله ع قال: ( إنّ عليًّا كان لا يرى بأسًا بدم ما لم يذكّ يكون في الثوب ، فيصلي فيه الرجل ، يعني دم السمك ) [5] .
  ومنها: خبر محمد بن ريان قال: ( كتبت إلى الرجل ع هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث ؟ ، وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البقّ على البراغيث فيصلي فيه ؟ ، وأن يقيس على نحوِ هذا فيعمل به ؟ ، فوقّع : يجوز الصلاة ، والطهر منه أفضل ) [6] .
  ويجاب عنهما - مضافًا لضعف الخبر الثاني بسهل بن زياد - : أنّ مفادهما ثبوت العفو في الصلاة ، ولا يستفاد منهما طهارة دم السمك ، ولا طهارة دم ما لا نفس له سائلة ، ولو فرض دلالة الخبر الثاني على طهارة دم البقّ والبراغيث فلا يفهم منه طهارة دم السمك ؛ نعم يفهم من قوله : (وأن يقيس على نحو هذا ... ) شموله لمثل الذباب والزنبور مما يشابه البقّ والبراغيث .
 ومنها: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال: ( قلت لأبي عبد الله ع ما تقول في دم البرغيث ؟ ، قال : ليس به بأس ، قلت : إنّه يكثر ويتفاحش ، قال : وإن كثر ) [7] .
  ومنها: ( موثّقة غياث المتقدّمة عن جعفر عن أبيه قال: ( لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف ) [8] .
 وفيه: أنّ دلالتهما على الطهارة لا تنكر ، إلّا أنّه لا عموم فيهما ، فيتقتصر على موردهما .
  واستدلّ العلامة في "المنتهى" على طهارة دم ما لا نفس له بـأنّ دمه ليس بأعظم من ميتته ، وميتته طاهرة.
  وأشكل عليه : بأنّه قياس واضح .
  اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الميتة من أجزائها الدم ، فإذا كانت طاهرة فيطهر كلّ أجزائها من اللحم والعظم ، والدم ، ونحوها .
  والأقوى أنّ يستدل على الطهارة بأمرين :
  الأول: السيرة الشرعية ، فإنّها مستمرّة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا على عدم الاجتناب عنه ، لا سيّما دم السمك .
  الثاني: قد عرفت فيما سبق أنّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة ، بقرينة بعض القرائن ، عموم نجاسة دم ذي النفس ، وأنّها قاصرة الشمول عن دم ما لا نفس له ، فيكون مشمولًا لموثّقة عمّار المتقدّمة :كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ... ، وعليه ، فأصل الطهارة محكم ، والله العالم .
 قال المصنف: ( وإن كان بحريًّا كالتمساح )
 المعروف بين الأعلام أنّ التمساح كغيره من أنواع السمك لا نفس له سائلة ، فيكون دمه طاهرًا ، نعم لو ثبت ما ذكره المصنف لكان حكم دمه حكم ذي النفس
 قال المصنف: ( أو كان علقة في البيضة ، أو غيرها )
 المعروف بين الأعلام نجاسة العلقة المستحيلة من المني ، وكذا نجاسة العلقة في البيضة ، بل ادّعيَ الإجماع على ذلك ، قال الشيخ في "الخلاف" : ( العلقة نجسة ) واستدلّ عليه بإجماع الفرقة ، وبأنّ ما يدلّ على نجاسة الدم يدّل على نجاسة العلقة ، لأنها دم ، وقال المحقّق في "المعتبر" : ( العلقة التي يستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة ، والشيخ استدلّ بإجماع الفرقة لنا ، أنّها دم حيث إنّ له نفس ، فتكون نجسة ، وكذا العلقة التي توجد في بيضة الدجاج ، وشبهه ) .
  وقال المصنّف في "الذكرى" - بعد نقل ما ذكره المحقّق ¬ - : ( وفي الدليل منع ، وكونها في الحيوان لا يدل على أنّها منه ) .
  وبالجملة ، أغلب الأعلام ذهب إلى نجاسة العلقة ، حتّى قال صاحب الجواهر: (لم يُعرَف من جزم بالطهارة ، إلّا صاحب الحدائق ) .
  أقول: أمّا إجماع الشيخ على النجاسة فلم يُكتب له التوفيق ، لما عرفت من حال الإجماع المنقول بخبر الواحد ، لا سيّما إذا كان ناقله الشيخ الطوسي ، كما أنّ من منع إطلاق اسم الدم عرفًا على العلقة ، خصوصًا التي في البيضة باعتبار أنّ العلقة هي الدم الغليظ ، في غير محلّه أصلًا ، لصدق اسم الدم عرفًا ، بلا ريب .
  والإنصاف أن يُقال: إن الذي استفدناه من الأخبار المتقدّمة يشمل العلقة المستحيلة من النطفة ، والقول : بانصراف إطلاق دم ذي النفس إلى الدم - الذي يعدّ من أجزائه الأصلية ، فلا يشمل الدم المتكوّن في الإنسان أو الحيوان - في غير محله .
 نعم لا يبعد القول : بقصور الأدلّة عن شموله لعلقة البيضة ، لأنّها غير متكوّنة في الحيوان ، بل المعروف أنّ علقة البيضة تتكوّن فيها بعد خروج البيضة من الحيوان ، فالأصل هو الطهارة ، وإن كان الأحوط الاجتناب .
  وقد اتضح ممّا ذكرناه : حكم نقطة الدم في البيضة ، فإنّها أولى بالحكم بالطهارة ، إذ هي ليست جزءًا من دم ذي النفس ، ولا متكوّنة فيه ، وليست مبدءًا لنشوء حيوان ، لكن الأحوط الأولى الاجتناب عنها ، والله العالم بحقائق أحكامه .
 قال المصنف: ( أمّا الدم المتخلّف في اللحم بعد الذبح ، والقذف ، فطاهر )
 طهارة الدم المتخلّف بعد خروج تمام المعتاد ، ممّا يقذفه المذبوح ، هو المعروف بين الأعلام ، بل ادّعى أكثر من واحد الإجماع على الطهارة .
  والإنصاف: أنّ المسألة متسالم عليها قديمًا وحديثًا ، بحيث خرجت عن الإجماع المصطلح عليه .
  وقد استدلّ أيضًا للطهارة بحلّية اللحم المذكّى ، وهو لا ينفكّ عن اشتماله على شيء من الدم ، بل يتعسّر جدًّا تخليصه منه ، إلا ببعض المعالجات التي علم من الشرع عدم لزومها ، ولا يخفى أنّ هذا الدليل إنّما يتمّ في الأجزاء المحلّلة وأمّا الإجزاء المحرّمة ، كالطحال ، ونحوه ، فلا يتمّ ما ذكروه .
  ولعلّ أحسن دليل على الطهارة بعد التسالم بين الأعلام هو استمرار سيرة المتشرّعة من زمن الأئمة ﭺ إلى زماننا هذا على عدم الاجتناب عمّا يتخلّف في الذبيحة من الدم ، سواء أكانت الأجزاء محللة أم محرمة ، كالطحال ، وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ موضع الذبح كلما غسلته يبقى الدم يتقاطر منه ، فلو لم نحكم بطهارته للزم العسر والحرج ، وبهذه الأدلّة يخصّص أو يقيّد ما دلّ على نجاسة الدم من ذي النفس .
  ثمّ إنّ المراد بالذبيحة مطلق المذكّاة تذكية شرعية من غير فرق بين الذبح والنحر وغيرهما ، نعم لو فقد بعض ما يعتبر في التذكية شرعًا ، كعدم كون الذابح مسلمًا ، ونحوه ، دخلت في الميتة ، ونجس سائر دمها ، لعدم المخصّص لنجاسة الدم ، هذا كلّه إذا كان المذكّى مأكول اللحم .
  وأمّا إذا كان المذكّى غير مأكول اللحم ، فعن جماعة من الأعلام نجاسة دمه مطلقًا ، بل نسبه بعضهم إلى معظم الأصحاب ، وهو الانصاف ، وذلك لعموم نجاسة دم ذي النفس ، ولا مخصّص ، لأنّ الأدلّة الدالة على طهارة الدم المتخلّف في الذبيحة إذا كانت مأكولة اللحم لا تجري هنا .
  أمّا التسالم بين الأعلام فهو غير متحقّق ، كما أنّ الإجماع المدّعى ، بناء على اعتباره ، هو دليل لبّي ، يُقتصر فيه على القدر المتيقن ، وهو المتخلّف في الذبيحة المأكولة .
  وأمّا الدليل الثاني - وهو حلّية اللحم المذكّى ، وهو لا ينفكّ عن اشتماله على شيء من الدم - : فعدم جريانه هنا واضح .
  وكذا الدليل الثالث - وهو سيرة المتشرّعة - : فعدم ثبوتها هنا واضح ، لقلّة الابتلاء بذبح ما لا يُؤكل لحمه .
  وأمّا ما ذكره بعضهم من الاستدلال لطهارته بعدم كون الدم المتخلّف دمًا مسفوحًا ، ففيه : ما عرفته من عموم نجاسة دم ذي النفس ، ولا تختص النجاسة بالدم المسفوح فقط ، والله العالم .
 وكذا دم البراغيث ، وقيل العفو
 ذكرنا بعض الروايات الدالة بالخصوص على طهارة دم البراغيث ، وفي الواقع هو متفق عليه بين الأعلام ، ولكن ذكر العلّامة ¬ في "المختلف" : ©أنّ ظاهر تقسيم الشيخ ¬ للدم في "المبسوط" و"الجمل" يعطي حكمه بنجاسة دم السمك ، والبقّ ، والبراغيث ، مع أنّه لا يجب إزالة قليله ، ولا كثيره ... ® .
  والصحيح: ما ذكرناه من الطهارة ، سواء أكان مراد الشيخ العفو أم لا ، والله العالم .


[1] - الوسائل باب82 من أبواب النجاسات ح2
[2] - الوسائل باب20 من أبواب النجاسات ح2
[3] - الوسائل باب20 من أبواب النجاسات ح6
[4] - الوسائل باب14 من أبواب النجاسات ح21
[5] - الوسائل باب23 من أبواب النجاسات ح2
[6] - الوسائل باب23 من أبواب النجاسات ح3
[7] - الوسائل باب23 من أبواب النجاسات ح1
[8] - الوسائل باب10 من أبواب النجاسات ح5

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo