الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
34/05/29
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: الفقه \ كتاب الطهارة \ المطهرات العشرة \ المعفو عنه
قال المصنف: ( وعن دم القروح والجروح الذي لا يرقأ )
المعروف بين الأعلام - قديماً وحديثاً ، وفي جميع الأعصار والأمصار - : هو العفو عن دم القروح والجروح الذي لا يرقأ - أي: لا ينقطع دمه ، ولا يسكن ، بل يكون سائلًا - وإن كثر .
وفي "الجواهر": ( بلا خلاف أجده ، بل عليه الإجماع ، محصَّلًا ومنقولًا ، لنفي الحرج ، وإرادة الله اليسر ، وأنَّه لا يكلف نفساً إلَّا وسعها ، وللنصوص المستفيضة ... ) .
أقول: لا خلاف في أصل المسألة ، وإنَّما الكلام في اعتبار المشقّة ، والسيلان ، في موضوع الحكم بالعفو ، فعن جماعة كثيرة من الأعلام عدم اعتبار شيء منهما ، منهم الشيخ الصدوق ، وأصحاب المدارك والذخيرة والحدائق ومجمع البرهان ، ولوامع النراقي ، والمحقق الهمداني ، وصاحب الجواهر ، والسيد محسن الحكيم ، والمحقِّق ، والشهيد الثانيان ، والسيد أبو القاسم الخوئي (قدس الله أسرارهم) ، وهو الإنصاف ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وفي المقابل ذهب جماعة أخرى من الأعلام: إلى اعتبار أحد القيدَيْن ، أو كليهما ، بل عن كاشف الغطاء في شرح القواعد نسبة اعتبار كِلا القيدَيْن تارة إلى الأكثر ، وأخرى إلى المشهور .
ومهما يكن ، فالمهمّ في المقام الرجوع إلى أخبار المسألة حتَّى يتضح الحقّ .
وقبل الشروع في ذكر أدلَّة الطرفَيْن: لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ كثيراً من الأعلام استدلَّ على العفو بأدلَّة نفي العسر والحرج .
وفيه: أنَّ هذه الأدلَّة عامَّة لا تختص بدم القروح والجروح ، بل تشمل مطلق الدم ، بل النجاسات بأجمعها ، فإذا لزم العسر والحرج بغسلها يرتفع التكليف حينئذٍ ، فلا خصوصيَّة حينئذٍ لدم القروح والجروح ، إلَّا ذكر في النصوص ، مع أنَّ الظاهر عند الأعلام أنَّ الأمر في هذا الدم عندهم أوسع من سائر الدماء ، والنجاسات .
ومن هنا ، يتعيَّن أن يكون مرادهم من العسر والحرج هنا هو النوعي ، لا الشخصي الذي يرتفع التكليف معه .
وإن شئت فقل: إنَّ القاعدة المذكورة في الأصول هي أنَّ العسر والحرج الشخصيَيْن هما الرافعان للتكليف ، لا العسر والحرج النوعيان .
وعليه ، فلكي يكون لدم القروح والجروح خصوصيَّة في المقام يتعيَّن أن يكون المراد عند الأعلام من العسر والحرج النوعيَيْن ، وبذلك يمتاز هذا الدم عن سائر الدماء ، بل عن جميع النجاسات .
أضف إلى ذلك: أنَّه يستفاد من بعض الأخبار الآتية كموثقة أبي بصير هو العسر والحرج النوعيان قال: ( دخلت على أبي جعفر ع وهو يصلي ، فقال لي قائدي : إنَّ في ثوبه دماً ، فلمَّا انصرف ع قلت له : إنَّ قائدي أخبرني أنَّ بثوبك دماً ! ، فقال ع : إنَّ بي دماميل ، ولست أغسل ثوبي حتَّى تبرأ )
[1]
ومن الواضح في هذا الموثَّقة حصول الحرج والمشقة النوعيَيْن ، وإن لم يكن فيه حرج شخصي عليه ع لإمكان تطهير الثوب ، أو تبديله .
إذا عرفت ذلك ، فنقول: قدِ استُدل للقول الأوَّل القائل بعدم اعتبار المشقَّة ، والسيلان ، إلى حصول البرء ، ببعض الأخبار :
منها: موثَّقة أبي بصير المتقدِّمة ، وهي مطلقة من حيث السيلان وعدمه ، ومن حيث وجود المشقّة الشخصيَّة وعدمها وعليه ، فالعفو مستمرّ إلى حصول البرء .
ومنها: صحيحة ليث المرادي قال: ( قلت لأبي عبد الله ع: الرجل تكون به الدماميل والقروح ، فجلده وثيابه مملوَّةً دماً وقيحاً ، وثيابه بمنزلة جلده ، فقال: يصلِّي في ثيابه ، ولا يغسلها ، ولا شيء عليه )
[2]
وهي مطلقة ، كإطلاق موثَّقة أبي بصير .
ومنها: رواية عمَّار عن أبي عبد الله ع قال: ( سألته عن الدمَّل يكون بالرِجل ، فينفجر ، وهو في الصلاة ، قال : يمسحه ، ويمسح يده بالحائط ، أو بالأرض ، ولا يقطع الصلاة )
[3]
وهي وإن كانت مطلقة من الجهتَيْن المذكورتَيْن ، إلَّا أنَّها ضعيفة بـ علي بن خالد ، فإنَّه غير موثَّق ، ورجوعه عن الزيديَّة - إن ثبت - لا يكشف عن حسنه ، ولا وثاقته .
وعليه ، فالتعبير عنها بالموثَّقة في غير محلِّه .
ومنها: صحيحة محمَّد بن مسلم عن أحدهما ع قال: ( سألته عن الرجل يخرج به القروح ، فلا تزال تدمي ، كيف يصلِّي ؟ فقال : يصلِّي ، وإن كانت الدماء تسيل )
[4]
ومثلها: ما رواه ابن إدربيس في "مستطرفات السرائر" عن نوادر البزنطي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر ع ، ولكنَّه ضعيف ، لِعدم ذكر ابن إدريس طريقه إلى نوادر البزنطي .
ولا يخفى أنَّ قوله: " وإن كانت الدماء تسيل " ، يدلَّ على أنَّ الحكم على تقدير عدم السيلان أولى بالعفو ، لأنَّ لفظة "إن" وصلية .
إن قلت: إن قوله: " فلا تزال تدمي" يدلّ على اعتبار السيلان في العفو ، فتكون دليلًا للقول الآخر .
قلت أوَّلًا: أنَّ هذا القول ليس من كلام الإمام ع ، بل من كلام السائل ، وغايته عدم شمول الحكم صورة عدم السيلان ، لا أنَّه يدلّ على عدم العفو فيه .
وثانياً: لا ظهور فيه بإرادة دوام السيلان لاحتمال إرادة الخروج حيناً ، فحيناً ، احتمالا معتدّاً به عند العقلاء ، كقولهم : لا يزال فلان يتكلم أو يتردَّد إلى كذا وكذا ، فإنَّه يراد منه أنَّه يفعله حيناً بعد حين ، لا أنَّه مستمرّ على فعله ، على وجه لا انقطاع فيه ، ولا انفصال .
وثالثا: لو سلَّمنا كونه مذكوراً في جواب الإمام ، إلَّا أنَّه لا يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء السيلان ،
[1] - الوسائل باب22 من ابواب النجاسات ح1
[2] - الوسائل باب22 من ابواب النجاسات ح5
[3] - الوسائل باب22 من أبواب النجاسات ح8
[4] - الوسائل باب22 من أبواب النجاسات ح4