< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/02/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : فقه / الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها /
قوله : (ويجب ترتيبها كما فاتت)
اِعلم أوَّلاً : أنَّه لا شبهة في اعتبار الترتيب بين الحاضرتين المشتركتين، أي : الظهرَيْن والعشاءَيْن في وقتهما المشترك، وفي المدارك : (أنَّه لا خلاف بين علماء الإسلام في ترتّب الحواضر بعضها على بعض ... )[1].
وثانياً : أنّه لا إشكال أيضاً في عدم اعتبار الترتيب في قضاء الفوائت من غير اليوميّة، لا بالنسبة إليها، ولا بعضها مع البعض الآخر، فلو كان عليه قضاء الآيات وقضاء اليومية، يجوز تقديم أيّهما شاء، وكذا لو كان عليه كسوف وخسوف يجوز تقديم كل ّمنهما .
وقد صرّح بذلك غير واحد من الأعلام، بل في الروض : (أنَّه ربّما ادّعي الإجماع عليه)، بل في المهذب البارع : دعواه عليه، وفي الجواهر : (لم نقف على أحد اعتبر الترتيب فيها، سوى ما يحكى عن بعض مشايخ الوزير العلقمي من اعتباره ...، وفي الذكرى، وبعض مشايخ الوزير السعيد مؤيّد الدين ابن العلقمي - طاب ثراهما - أوجب الترتيب في الموضعين لعموم : فليقضها كما فاتته، وجعله الفاضل في التذكرة احتمالاً، ولا بأس به)[2]، وسيتضح لك - إن شاء الله تعالى - ضعف هذا المستند، لأنَّه نبوي مرسل، مضافاً لضعف دلالته .
وبالجملة،لا إشكال فيما ذكرناه، وإنّما الكلام في اعتبار الترتيب في الفوائت اليوميّة، فالمشهور بين الأعلام على وجوب الترتيب، قال المحقّق (رحمه الله) في المعتبر : (إنَّ الأصحاب متفقون على وجوب ترتيبها بحسب الفوائت، وفي الجواهر : لا خلاف معتدّ به فيه بالنسبة للفوائت بعضها مع بعض، بمعنى وجوب فعل السابق فواتاً، وإن كان عصراً مثلاً على اللاحق، وإن كان ظهراً، بل عن مجمع البرهان نفي الخلاف عنه أصلاً، بل إن لم يكن الإجماع عليه محصّلاً، فهو محكي في الخلاف والتنقيح، وعن المعتبر والتذكرة، وموضع من الذكرى، كما أنّه نسبه في المنتهى إلى علمائنا، وفي كنز الفوائد إلى الإماميّة مشعرين بدعوى الإجماع عليه) .
وقال المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى : (ومال بعض الأصحاب - ممَّن صنّف في المضايقة والمواسعة - إلى أنّه لا يجب، وحمل الأخبار، وكلام الأصحاب، على الاستحباب، وهو حمل بعيد مردود بما اشتهر بين الجماعة ... ) [3].
أقول : قدِ استفاض نقل الإجماع على وجوب الترتيب، وهو العمدة عند المشهور إلَّا أنّك عرفت في أكثر من مناسبة عدم صحّة الاعتماد على الإجماع المنقول بخبر الواحد وإنِ استفاض نقله، إذ لا يخرج بذلك عن كونه منقولاً بخبر الواحد .
وقد ذكرنا في محلّه أنّ أدلّة حجيّة خبر الواحد لا تشمل الإجماع المنقول بخبر الواحد .
وعليه،فهو يصلح للتأييد، لا للاستدلال .
وقد يستدلّ ببعض الأخبار :
منها : النبوي المشار إليه (من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته)، المراد منه المشاركة بجميع وجوه الشبه التي فيها الترتيب الذي كان في الأداء .
وفيه أوَّلاً : أنّه ضعيف بالإرسال، روته العامّة، ولم يوجد في شيء من الأصول المعتدة .
وثانياً : أنّ الظاهر منه إرادة كيفيّة الفائتة الثابتة لها وقت أدائها من العصر والإتمام والجهر والإخفات، ونحوها، لا ما يشمل السبق في الفوات، ضرورة عدم كون ذلك من كيفيّات الفائتة، بل هو من الأمور الاتفاقيّة لها، الحاصل بسبب تعاقب الزمان وتدريجيته .
ومنها : حسنة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر ‘ (قال : إذا نسيت صلاةً، أو صليتها بغير وضوء، وكان عليك قضاء صلوات، فابدأ بأوّلهن فأذِّن لها، وأقم، ثمَّ صلّها، ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة، إقامة لكلّ صلاة - إلى أن قال : - وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعاً فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة، اِبدأ بالمغرب ثمّ العشاء .... )[4].
والاستدلال بهذه الحسنة في فقرتين منها :
الفقرة الأولى : قوله : (فابدأ بأوّلهن )، بناءً على أنّ المراد البدأة بالأولى فواتاً .
ولكن لا يظهر هذا المعنى منها : إذ يحتمل قريباً أن يكون المراد أوّلهن قضاءً، لا فواتاً، أي : يكون الأمر إرشاداً إلى كيفيّة القضاء، فمَنْ يريد القضاء يجوز له أن يكتفي بأذان واحد لأوّلهن، ثمّ يصلّي بإقامة، إقامة لكلٍّ من الصَّلوات التي يقضيها في مجلس واحد .
وممَّا يؤكِّد هذا الأمر : عدم تعرّضه في الحسنة للترتيب بين الأولى وما عداها من الصَّلوات الفائتة .

ويشهد لمَّا ذكرنا - من كون الحسنة واردة لكيفيّة القضاء، من حيث الاكتفاء بأذان واحد للصَّلوات التي يقضيها في مجلس واحد - : ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم (قال : سألتُ أبا عبد الله ‘ عن رجلٍ صلَّى الصَّلوات وهو جنب اليوم واليومين والثلاثة، ثمَّ ذكر بعد ذلك، قال : يتطهّر ويؤذّن، ويقيم في أوّلهن، ثمّ يصلّي، ويقيم بعد ذلك في كلّ صلاة فيصلّي بغير أذان حتّى يقضي صلاته)[5].
وأما الفقرة الثانية التي استدل بها على وجوب الترتيب : هي قوله ‘ : (وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك إلى قوله : ابدأ بالمغرب ثم العشاء .... )، ومثلها ما ورد في صحيحة عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال : إن نام رجل، أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة، فإنِ استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، وإن خاف أن تفوته إحداهما فَلْيبدأ بالعشاء الآخرة، وإنِ استيقظ بعد الفجر فليصلّ الصبح، ثمَّ المغرب، ثمَّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشَّمس)[6]، ونحوها صحيحة عبد الله بن سنان[7].
والجواب : أنَّ مورد فقرة حسنة زرارة، وصحيحتي ابني مسكان وسنان هو الفوائت المترتّبة في الأداء، ونحن نلتزم بذلك كالظُّهرين، إذ لا إشكال في وجوب الترتيب في قضائهما كأدائهما، ولكن التعميم للفوائت غير المرتّبة في الأداء يحتاج إلى القول بعدم الفصل، وهو غير ثابت .
ومنها : مرسلة جميل عن أبي عبد الله ‘ (قال : قلت : تفوت الرجل الأولى والعصر والمغرب ويذكر بعد العشاء ؟ قال : يبدأ بصلاة الوقت الذي هو فيه، فإنَّه لا يأمن الموت، فيكون قد ترك الفريضة في وقت قد دخل، ثمَّ يقضي ما فاته الأوّل فالأوّل)[8]، هكذا في الوسائل، وقد نقلها صاحب الوسائل (رحمه الله) عن المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر، ولكنّ الموجود في المعتبر عند العشاء بدل بعد العشاء، وهو الصحيح .


ومهما يكن، فلا يصحّ الاستدلال بهذه الرواية :
أمَّا أوَّلاً : فَلِضعفها بالإرسال، لأنّ المحقّق (رحمه الله) في المعتبر نقلها عن جميل مباشرة، ولم يذكر طريقه إليه .
نعم، في الوسائل ذكر هذه الرواية في باب قضاء الصَّلوات عن الشيخ (رحمه الله)، حيث قال : (وبإسناده - أي : الشيخ - عن أحمد بن محمد عن الحسن بن علي الوشا عن رجل عن جميل ...)، وهي أيضاً ضعيفة بالإرسال .
ويحتمل أن يكون طريق المحقِّق (رحمه الله) إلى جميل هو طريق الشيخ (رحمه الله)، وعلى فرض أن يكون له طريق آخر فلا يعتمد عليه أيضاً، لأنَّه مجهول، فتكون مرسلة .
وأمَّا احتمال أن يكون المحقِّق أخذ الرواية من أصل جميل مباشرة فهو احتمال بعيد يحتاج إلى قرينة قويّة .
وأمّا ثانياً : فبالنسبة لدلالته، فإنّه إذا كانت النسخة (بعد العشاء)، أي : تذكر بعد الإتيان بصلاة العشاء، فيكون المراد حينئذٍ بفريضة الوقت في قوله : (يبدأ بصلاة الوقت) هي صلاة المغرب، لبقاء وقتها، ولصحّة صلاة العشاء حيث قدّمها نسياناً .
وعليه، فينحصر الفائت بالظُّهرين، ولا إشكال في وجوب الترتيب في قضائهما لكونهما مترتبتين أداءً .
وأمَّا إن كانت النسخة عند العشاء كما هو الصحيح فالمراد بفريضة الوقت حينئذٍ هي صلاة العشاء، ولا تنحصر الفائتة بالظَّهرين، بل معهما صلاة المغرب، وبذلك تكون دالّة على وجوب الترتيب، يقضي الأوّل فالأوّل، أي : الظّهر، ثمّ العصر، ثمّ المغرب، وتكون المغرب مترتبة على قضاء صلاة العصر .
ولكنّ هذه الاستدلال مبني على أنّ وقت صلاة المغرب ينتهي بذهاب الحمرة المغربيّة الذي هو وقت العشاء، وهو موافق لمذهب العامّة، وبعض العلماء من أصحابنا، وهو خلاف الإنصاف، حيث ذكرنا سابقاً أنّ مشهور الأعلام ذهب إلى امتداد وقت صلاة المغرب إلى منتصف الليل، وهو الصحيح .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo