< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكان المصلَّي

وأمَّا الأمر الثالث : ربما يظهر من بعض الأعلام أنّه يعتبر في إحراز رضا المالك العلم به حقيقةً استناداً إلى أصالة عدم حجيّة غيره ، بل هو صريح صاحب المدارك في شرح عبارة المحقّق في الشرائع قال : (وبالجملة فالمعتبر في غير المباح والمملوك للمصلّي علمه برضا المالك ، سواء كان الدّال على الرضا لفظاً ، أو غيره)[1] .

ثمَّ تنظَّر في عبارة المحقّق & من وجوهٍ ، ثالثها : اكتفاؤه في شاهد الحال بأن يكون هناك أمارة تشهد أنّ المالك لا يكره ، غير مستقيم ، لأنّ الأمارة تصدق على ما يفيد الظنّ ، أو منحصرة فيه ، وهو غير كافٍ هنا ، بل لا بدّ من إفادتها العلم كما بيّناه.

هذا ، وقد ذهب بعض الأعلام إلى كفاية الظنّ بالرضا في جواز التصرّف في ملك غيره مطلقاً ، وقد قوَّاه النراقي & في المستند.

وزعم أنَّه الموافق للأصل ، وأنّ ما دلّ على حرمة التصرّف في مال غيره من دون رضاه لا يدل إلّا على حرمته مع العلم بعدم الرضا ، أو مع احتمال الرضا ، لا مع الظن به ، قال من جملة كلام له : ( وهل يكفي في شاهد الحال ، بل مطلق الإذن المزيل للتحريم ، الموجب لصحّة الصّلاة ، حصول الظنّ بالرّضا ، أم يتوقّف على علمٍ به ؟ الأظهر الأشهر - كما صرح به في الحدائق & - الأوّل ، لأصالة جواز التصرّف في كلّ شيء ، السالمة عما يصلح للمعارضة ، إذ ليس إلّا الإجماع المنتفي في المقام قطعاً ، واستصحاب حرمة التصرف المعارض باستصحاب جوازه لو كانت الحالة السابقة العلم بالرضا ، والمردود بأنَّ المعلوم أوَّلاً ليس [ إلا ] حرمة التصرف ما دام عدم الظن بالرّضا بشرطه ، دون الزائد)[2] .

ثمَّ استشكل في دلالة موثّقة سماعة المتقدّمة : (بأنّ عدم الحليّة هل يعمّ جميع التصرفات حتّى غير المتلِفة أيضاً ، أم لا ؟ - إلى أنَّ قال في ذيل كلامه في مقام الاستدلال لجواز الصّلاة في الوقف من غير توقّفه على إذن المتولِي ، أو الواقف ، أو الموقوف عليهم - أنَّ الأصل جواز هذا النوع من التصرّف لكلّ أحد في كلّ مال ، وعدم تأثير منع المالك فيه ، إذ لا يمنع العقل من جواز الاستناد ، أو وضع اليد ، أو الرّجل في ملك غيره بدون إذنه إذا لم يتضرر به ، بل ولو مع منعه ، كما في الاستظلال بظلّ جداره ، والاستضاءة بضوء سراجه ، وإنّما المانع الدليل الشرعي ، وليس إلّا الأخبار ، والإجماع[3] .

أمّا الأخبار - فمع عدم صراحتها ، بل ولا ظهورها في أمثال هذه التصرّفات ، وعدم معلوميّة شمولها للموقوفات ، ولا للموقوف عليهم - : ضعيفة ، لا تصلح للحجيّة في غير مورد الانجبار ، والاشتهار ، وهو غير صورة العلم بعدم إذن المالك في المملوك الطلق ، ومع احتمال عدم الإذن غير معلوم.

وأما الإجماع : فظاهر ، كيف ؟! ويدعي بعضهم الإجماع على جواز هذه التصرّفات ، وأنّها كالاستظلال بظلّ الحائط ، ما لم يتضرّر المالك مطلقاً)[4] .

أقول : أمّا اشتراط خصوص العلم برضاه -كما هو صريح عبارة المدارك & - ففي غير محلّه ، بل يكفي الظنّ المعتبر ، وهو الظن الناشئ من البيِّنة ، أو خبر الواحد الثقة ، وقد عرفت أنّه حجّة حتّى في الموضوعات .

وبالجملة ، فإحراز الرّضا يكون بالعلم ، أو ما قام مقامه ، كالبينة ، وظواهر الألفاظ ، وخبر الثقة ، ونحو ذلك ، ممّا ثبت فيه حجيّة بعض الظُّنونات .

وأمَّا بالنسبة للنراقي & ففي كلماته مواقع للنظر :

أوَّلاً : أنّ قوله : (أنّ مقتضى الأصل جواز التصرّف في مال الغير)[5] في غير محلّه أصلاً ، لاستقلال العقل وجميع أرباب المِلل والنِحَل على قبح التصرّف في مال الآخر بدون رضاه .

وبالجملة ، فإنّ رضا المالك هو السبب الوحيد لحِلّ التصرّف في ماله ، وإحرازه يكون بالعلم ، أو الظنّ المعتبر ، ومع الشكّ فيه - ويدخل فيه الظنّ غير المعتبر - يكون المرجع أصالة عدم الرضا المترتب عليها عدم الجواز .

وليس العلم بعدم الإذن أو الظنّ بالعدم من حيث هو سبباً للحرمة حتّى يكون عدمه مناطاً للحِلّ كما زعمه .

وثانياً : أنّ ما ذكره من عدم دلالة موثّقة سماعة ، لعدم العلم بمتعلّق عدم الحليّة ، لاحتمال أن يكون المراد التصرّفات المتلِفة ، ففي غير محلّه ، لِمَا ذكرناه سابقاً من أنّها مطلقة تشمل التصرّفات المتلِفة ، وغيرها .

وثالثاً : أنّ ما أفاده من إنكار صدق التصرّف الممنوع على الصّلاة في ملك غيره بدون رضاه ، وأنّه مجرد ، استثناء لا يمنع منه العقل ، ما لا يتضرر به المالك ، ففي غير محلّه أيضاً ، لأنّ الكون في ملك غيره ، والاعتماد على مملوكه من دون رضاه ، من أظهر مصاديق التصرّف في مال غيره ، وهو قبيح عقلاً ، فإنّه ظلم ، وتَعَدٍّ على ملكِ غيره ، سواء تضرّر به ، أم لا .

ورابعاً : أنّ مقياس المقام بالاستظلال بظلِّ جداره ، والاستضاءة بضوءِ سراجه ، في غير محلِّه ، لأنَّ هذه الأمور لا يصدق عليها التصرُّف في مال غيره ، بل يصدق عليها الانتفاع بماله ، وقد قامت السيرة العقلائيَّة القطعيَّة الممضاة من الشارع على جواز الاستظلال بظلّ الجدار ، بل والاعتماد على حائط غيره إذا كان المعتمد خارجه ، كما لو اتكأ من خارج الدار على الحائط ، وأيضاً قامت السّيرة القطعيّة على الاستضاءة بنورِ غيره .

وبالجملة ، فإنّ المباح هو الانتفاع ، ومحلّ الكلام هو التصرّف في مال غيره ، وهذا هو المحظور .

والخلاصة إلى هنا : أنّ ما ذكره المحقِّق النراقي & ، وغيره ، ممَّن ذهب إلى كفاية مطلق الظنّ ، ليس بتامّ .

الأمر الرابع : قد عرفت أنّ الملاك في التصرّف في مال الآخر هو إحراز رضا المالك ، إمّا بالعلم حقيقةً ، أو حكماً ، كالظنّ المعتبر ، ثم نأتي - الآن - إلى هذه الأسباب الموجبة للعلم ، أو ما بحكمه ، ونبيُّنها ، وهي منحصرة عندهم في ثلاثة : الإذن ، والفحوى ، وشاهد الحال .

أمَّا الإذن : فلا إشكال في كشفها عن رضاه ، سواء كان على نحو العلم ، أو الظنّ ، لاستقرار سيرة العُقلاء على حجيّة الظهور ، والإذن ظاهر في رضاه ، علماً ، أو ظنّاً .

وأمّا الفحوى : كإدخال الضيف منزله ، والإذن له في التصرّف بالقيام ، والقعود ، والأكل ، والنوم .

وعليه ، ففي الصلاة يكون بالأَولى راضياً ، أي رضاً تقديري .

أقول : إنّ تفسير الفحوى بما ذُكِر مخالف لِمَا هو المعهود عند الأصوليين ، لأنّ دلالة الفحوى هي مفهوم الموافقة ، والتنبيه بالأدنى على الأعلى ، أي كون الحكم في غير المذكور ، بحيث يكون الحكم غير المذكور مستفاداً من حاقِّ اللفظ بالأولويّة ، كما في قوله تعالى : ﴿ فلا تقل لهما أف[6] ، والنهي عن التأفيف يدلّ بنفسه على النهي عن سائر مراتب الإيذاء من الشتم والضرب ، ونحوهما ، بطريق أولى .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo