الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/01/12
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : مكانُ المصلِّي
قوله : (وتُكره الفريضة جوفَ الكعبة ، ولا تحرم ، خلافاً للخلاف ، بناءً على أنّ القبلة جميع الكعبة ، ولرواية محمّدِ بنِ مسلم عن الصّادق عليه السلام)[1]
المشهور بين الأعلام كراهة الفريضة في جوف الكعبة .
ووجه الصحّة : أنّ القبلة هي الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، لا البناء .
ومن هنا لو زال البناء - لا سمح الله - صلّى إلى جهتها .
وعليه ، فلو صلّى في جوفها استقبل أحد جدرانها .
هذا ، وعن الشّيخ رحمه الله في الخلاف ، والقاضي رحمه الله في المهذب : المنع عنها اختياراً .
وقد يُستدلّ للمنع بعدّة أدلّة :
منها : الإجماع المدَّعى في الخِلاف .
وفيه - مضافاً إلى ما عرفت في أكثر من مناسبة من أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد غير حجّة - : أنّه موهون بمخالفة المشهور ، حتّى الحاكي له في بعض كتبه الأُخَر ، كالمبسوط .
ومنها : أنّ القبلة جميع الكعبة ، والمصلّي في وسطها غير مستقبِل جميعها .
وفيه : أنّ القبلة ليست مجموع البناء ، بل نفس العرصة ، وكلّ جُزء من أجزائها يكون قِبلة .
وعليه ، فالمصلّي فيها يكون مستقبلاً للقِبلة .
إن قلت : إنّ المتبادر من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة ، واستقبالها في الصّلاة ، هي كون الكعبة في جهة مقابلة للمصلّي فيكون خارجاً عنها .
قلت : إنّ إطلاق الأمر بذلك جارٍ مجرى الغالب ، فلا يتبادر إرادته إلّا ممَّن كان خارجاً من الكعبة ، وأمّا مَنْ كان فيها فينصرف عنه هذا الخطاب ، ويكون مأموراً باستقبال جُزء منها ، ولو من قضائها .
ومن هنا لو صلّى مثلاً عند الباب مستقبلاً خارج الكعبة - على وجهٍ لم يكن بين يديه ، ولو في حال الرّجوع أو السّجود شيء من فضائها - لم يجز ذلك ، وعليه الإعادة لأنّه ليس مستقبلاً للقبلة .
ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (قال : لا تصلّ في المكتوبة في الكعبة)[2] .
ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : لا تصلّ المكتوبة جوف الكعبة ، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله لم يدخل الكعبة في حجّ ، ولا عمرة ، ولكنّه دخلها في الفتح - فتح مكة - وصلّى ركعتين بين العمودَيْن ، ومعه إسامة بن زيد)[3] .
وفيه : أنّ الصحيحتين معارضتان بموثّق يونس بن يعقوب (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام حضرت الصّلاة المكتوبة ، وأنا في الكعبة ، أفصلّي فيها ؟ قال : صلّ)[4] .
ومقتضى الجمع العرفي : حَمْل الصحيحتين على الكراهة .
وأمّا ما عن الشّيخ رحمه الله من حمل الموثّقة على الضّرورة : فهو بعيد جدّاً ، لظهورِ استفهام السّائل في إرادته إيقاع الصّلاة اختياراً فيها في مقابل الصّلاة خارجها مكانه (قال : أفأصلّي فيها ، أو أخرج للصّلاة) فكيف يصحّ حينئذٍ حَمْل إطلاق الجواب على الضرورة ؟
ثمّ إنّ هناك روايتَيْن أيضاً لمحمدِ بن مسلم :
الأُولى : وهي صحيحة عن أحدهما عليهما السلام (قال : لا تصلّح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة)[5] .
الثانية : عن أحدهما عليهما السلام (قال : تصلح المكتوبة في جوف الكعبة)[6] ، قال صاحب الوسائل : (لفظة (لا) هنا غير موجودة في النسخة التي قُوبلت بخطّ الشّيخ ، وهي موجودة في بعض النسخ ... ).
أقول : هذه الرّواية ضعيفة سنداً ، لأنّ الطريق إلى الطّاطري فيه أحمد بن عمر بن كيسبة ، وهو غير مذكور في الرّجال .
أضف إلى ذلك : أنّ الموجود في التهذيب رواية الطّاطري عن أبي جميلة عن علاء عن محمّد بن مسلم ، وفي الوسائل روايته عن ابن جبلة عن علاء عن محمّد بن مسلم ، فلم يُحرز أنّ الموجود هو ابن جبلة الثقة .
ثمّ إنّ الرّواية إن كانت بدون لفظة (لا) فتكون صريحةً في الجواز ، وإن كانت معها فقد عرفت في أكثر من مناسبة أنّ لفظة (لا تصلح) ظاهرة في الكراهة ، وعلى فرض ظهورها في المنع فتكون هاتان الروايتان من الرّوايات المانعة المحمولة على الكراهة ، جمعاً بينها وبين موثّقة يونس المتقدّمة .
ثمّ إنّه يُحتمل أن تكون الرّوايات الثلاث المرويّة عن محمّد بن مسلم متحدةً ، وقد حصل الاختلاف في نقلها من الرّواة بلحاظ النقل باللفظ ، أو بالمعنى ، أو حصل ذلك من النساخ .
وبالجملة ، فعلى تقدير الاتّحاد فهي مجملة ، مردّد أمرها بين أن يكون بلفظ (لا يصلي) الظاهر في الحرمة ، أو (لا يصلح) الظاهر في الكراهة ، فلا تنهض حجةً لإثبات أزيد من الكراهة .
وعلى تقدير تعدّد الرّوايات فقد عرفت أنّ كلمة لا يصلح في الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في الكراهة ؛ مضافاً لضعف الثانية سنداً .
والخلاصة إلى هنا : أنّ ما ذهب إليه المشهور من الجواز على كراهةٍ هو الصحيح ، والله العالم .
قوله : (ورُوي : أنّه لوِ اضطرّ إلى الصّلاة فيها صلّى إلى جوانبها الأربعة ، ورُوي : جوازها عند خوف الفوات)[7]
قد عرفت أنّه في حال الاختيار تصحّ الفريضة في جوف الكعبة على كراهة ، وأمّا في حال الاضطرار فلا شبهة في جوازها وبلا كراهة ، فإنّ الصّلاة لا تسقط بحال .
نعم ، روى الشّيخ الكليني رحمه الله بعد روايته لصحيحة بن مسلم الدّالة على المنع ، قال : (ورُوي في حديثٍ آخر : يصلّي في جوانبها إذا اضطرّ إلى ذلك)[8] .
قال المصنّف رحمه الله في الذكرى : (هذا إشارة إلى أنّ القبلة إنّما هي في جميع الكعبة ، فإذا صلّى في الأربع عند الضّرورة فكأنّه استقبل جميع الكعبة) .
أقول - مضافاً إلى أنّ الرّواية ضعيفة بالإرسال قد عرفت أنّ القبلة هي الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه .
وبالجملة ، فإنّها ليست مجموع البناء ، بل نفس العرصة .
وعليه ، فلا موقع للإشارة حينئذٍ .
والخلاصة إلى هنا : أنّه لا تجوز الصّلاة الواجبة في جوف الكعبة اختياراً على كراهة .
ولكن قد يُؤيّد المنع لا الضرورة : خبر محمّد بن عبد الله بن مروان (قال : رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن عليه السلام عن الرّجل إذا حضرته صلاة الفريضة ، وهو في الكعبة ، فلم يمكنه الخروج من الكعبة ؟ قال : ليستلقي على قفاه ، ويصلّي إيماءً ، وذكر قول الله - عزوجل - : فأينما تولّوا فثمّ وجه الله)[9] .
وفيه أوّلاً : أنّ الرّواية ضعيفة ، فإنّ أحمد بن الحسين الواقع في السّند إن كان هو ابن سعيد بن عثمان فهو مجهول .