الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/02/13
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : أحكام المساجد
قوله : (وترك البيع والشّراء ، والمجانين والصبيان)[1]
المشهور بين الأعلام استحباب ترك البيع والشراء ، والمجانين والصبيان ، قال العلَّامة المجلسي رحمه الله في البحار : (لا خلاف في كراهة تمكين المجانين والصبيان لدخول المساجد ، وربّما يقيّد الصبي بمَنْ لا يُوثق به ، أمَّا من عُلِم منه ما يقتضي الوثوق به ، لمحافظته على التنزّه من النجاسات ، وأداء الصّلوات ، فإنّه لا يُكره تمكينه ، بل يستحبّ تمرينه ، ولا بأس - إلى أن قال : - والمشهور كراهة البيع والشّراء ، فإن زاحم المصلّين ، أو تضمن تغيير هيئة المسجد ، فلا يبعد التحريم ، وبه قطع جماعة ... )[2] .
أقول : قد استُدل لذلك ببعض الرّوايات :
منها : مرسلة علي بن أسباط عن بعض رجاله (قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : جنِّبوا مساجدكم البيع والشراء ، والمجانين والصبيان ، والأحكام ، والضالة ، والحدود ، ورفع الصوت)[3] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : رواية عبد الحميد عن أبي إبراهيم عليه السلام (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : جنّبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وشرائكم وبيعكم)[4] ، وهي ضعيفة أيضاً بسهل بن زياد ، وبجهالة كلٍّ من جعفر بن محمّد بن بشّار ، وعبد الله الدّهقان .
ومنها : ما عن المجالس والأخبار بإسناده إلى أبي ذر رضوان الله عليه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيته له (قال : يا أبا ذر ! الكلمة الطيّبة صدقة ، وكلّ خطوة تخطوها إلى الصّلاة صدقة ، يا أبا ذر ! مَنْ أجاب داعي الله ، وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنّة ، فقلت : كيف يَعْمر مساجد الله ؟ قال : لا ترفع الأصوات فيها ، ولا يخاض فيها بالباطل ، ولا يشترى فيها ، ولا يُباع ، واترك اللغو ما دمت حيّاً ، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلّا نفسك)[5] ، وهي ضعيفة أيضاً ، لوجود أكثر من شخص ضعيف في إسناد الصّدوق رحمه الله إلى أبي ذر رضوان الله عليه ، وبعضهم أيضاً مجهول الحال .
ومنها : مرسلة الفقيه (قال : قال عليه السلام : جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، ورفع أصواتكم ، وشرائكم وبيعكم ، والضّالة ، والحدود والأحكام)[6] ، وهي ضعيفة بالإرسال .
ولا يهمّنا البحث على أنّ ترك هذه الأمور مستحبّ ، أو أنّ فِعْلها مكروه ، بعد أن كانت الرّوايات كلّها ضعيفة السّند .
ثمّ إنّه لا يخفى قد يلحق بالبيع والشراء سائر عقود المعاوضة ، بل لعلّها المرادة من البيع والشراء في النصوص على إرادة مطلق النقل والانتقال بعوض منهما .
قوله : (والأحكام)
وقد عبّر جماعة من الأعلام بإنفاد الحكم .
وعلى كلِّ حالٍ فالمراد منه نفس الحكم الواقع من الحاكم لقطع الخصومات ، ونحوهما ، لا مطلق بيان الأحكام الشرعيّة للتعليم ، ونحوه ، إذ لم يحتمله أحد من الأصحاب هنا .
ثمّ إنّه استدل لاستحباب ترك الأحكام فيها ، أو لكراهة الأحكام فيها ، بمرسلة علي بن أسباط المتقدّمة ، ولكنّها ضعيفة ، كما عرفت .
قالوا : ويؤيِّد الكراهة التعليل بما في جملة من النصوص من أنّه إنّما نصبت المساجد للقرآن الكريم ، وممّا في الحكم من التحاكم المفضي غالباً إلى التشاجر ، ورفع الأصواب ، والتكاذب ، وارتكاب الباطل ، ونحو ذلك ، ممّا لا ينبغي وقوعه في المساجد .
أقول : إذا كان الدليل ضعيفاً ، فلا معنى حينئذٍ للتأييد بما ذكر .
هذا ، وقد حكم الشّيخ رحمه الله في الخلاف ، وابن إدريس رحمه الله بعدم الكراهة ، واستقرّ به العلّامة رحمه الله في المختلف ، محتجّاً بأنّ الحكم طاعة ، مجاز إيقاعها في المساجد الموضوعة للطاعات ، وبأنّ أمير المؤمنين عليه السلام حكم في مسجد الكوفة ، وقضى فيه بين الناس ، ودكّة القضاء معروفة فيه إلى يومنا هذا ... ) .
وقال الشّيخ رحمه الله في المحكي عنه : (لا خلاف في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقضي في المسجد الجامع ، ولو كان مكروهاً ما فعله ، وكذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام يقضي بالكوفة في الجامع ، ودكّة القضاء معروفة إلى يومنا هذا ، وهو إجماع الصّحابة ... )[7] .
وقد استدلّ لعدم الكراهة أيضاً بما في كشف اللثام عن بعض الكتب مرسلاً (أنّه بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أنَّ شُرَيحاً يقضي في بيته ، فقال : يا شُرَيح ! اجلس في المسجد ، فإنّه أعدل بين النّاس ، ولأنّه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته ... ) ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .
والخلاصة إلى هنا : أنَّ الأقوى عدم الكراهة مطلقاً .
بل قد يُقال : باستحباب القضاء في المسجد من باب التأسي .
وأمَّا القول : بكراهة المداومة دون النادر - كما اختاره المحقّق رحمه الله في كتاب القضاء ، وتبعه بعض من تأخّر عنه - ففي غير محلّه ، لأنّ الظاهر من دكّة القضاء ، والمشهور في جملة من الأخبار الدّالة على تحاكم الناس إليه عليه السلام في المسجد ، وقوع ذلك غالباً ، بل لم يذكر موضع آخر في جلوسه للحكومة بين الناس .
وهكذا الحال بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، لمعروفية مواظبته (صلى الله عليه وآله) على إنفاذ الأحكام في المسجد .
ومع ذلك كلّه فالأحوط استحباباً اجتناب الحكم في المسجد ، لا سيما مع وضوح الفرق بين النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين عليه السلام ، وباقي المعصومين عليهم السلام ، ممَّن هم مأمونون عن الخطأ في الواقع ، وبيننا الذين لا نأمن من الخطأ ، ومن التقصير في المقدّمات ، واتّباع الشهوات ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنّبنا الوقوع في الخطأ ، فإنّه سميع مجيب .
قوله : (وتعريف الضالّة)[8]
تعريف الضّالة هو ذكرها ليُعرف صاحبها ، ذكر المصنّف رحمه الله أنّه يستحبّ ترك تعريف الضّالة في المسجد ، وهو المعبّر عنه عند الفقهاء بإنشادها ، وهو غير نشدتها ، أي طلبها ، وإن كان ذكر جماعة من الأعلام أنّه يُكره كلّ من الإنشاد والنشدة في المسجد .
وقد يستدلّ على كراهتهما : بمرسلة عليّ بن أسباط المتقدّمة (قال : أبو عبد الله عليه السلام : جنّبوا مساجدكم - إلى أن قال : - والضّالة ... ) ، وهي تشمل الإنشاد ، والنشدة ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال ، كما تقدّم .
ويدلّ على خصوص النشدة مرسلة الفقيه (قال : سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) رجلاً ينشد ضالّة في المسجد ، فقال : قولوا له : لا رادّ الله عليك ، فإنّها لغير هذا بُنيت)[9] .