< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/03/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : في السّجود ومواضعه

 

الأمر الثالث : المعروف بين الأعلام أنّه يُكره السُّجود على القرطاس إذا كان فيه كتابة ، وذلك لصحيحة جميل بن دراج المتقدِّمة .

ولكنِ اختَلف الأعلام في أنّ الكراهة هل هي مطلقة ، كما عن أكثر الأعلام ، أو أنّها مخصوصة بالمبصر ، كما حُكي عن المحقِّق والشهيد الثانيين رحمهم الله تعالى ، أو بمن أبصر ، وأحسن القراءة ، كما عن المبسوط والوسيلة والسرائر ، والمصنِّف رحمه الله هنا ، وعن نهاية الأحكام : (الأقرب الجواز في الأعمى ، أي عدم الكراهة) ، وفي البيان (قد يتأكّد الكراهة بذلك) .

ولكنَّ الإنصاف : هو ما ذهب إليه الأكثر ، لإطلاق النصّ .

اللهمَّ إلَّا أن يُقال : إنّ الإطلاق مبنيّ على أن يكون (يُسَجد) بالبناء للمفعول ، وهو غير ثابت ، فيُحتمل أن يكون (يَسْجُد) مبنيّاً للفاعل ، ويكون ضميره عائداً إلى أبي عبد الله عليه السلام ، وهو كان يُبصِر ويُحسِن القراءة ، فلا يُستفاد منه حينئذٍ الكراهة لِمَنْ لم يكن كذلك .

ولكن مع ذلك فالأقرب : هو ثبوت الكراهة مطلقاً حتّى على قراءة (يَسْجُد) بالنباء للفاعل ، لأنّ كونه عليه السلام واجداً للخصوصيّة لا يجعل الحكم مقتصراً عليها ، طالما أنَّ الموضوع هو القرطاس الذي عليه الكتابة .

ثمّ إّنه ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أنّه يُشترط في الكاغد المكتوب عدم مانعيّة الكتابة عن وصول الجبهة إلى الكاغد ، بأن كان الفاصل بين خطوطها بقدر ما يحصل به مسمَّى السُّجود على الكاغد ، وإلَّا كان غير جائز إذا كانت الكتابة جُرماً ممَّا لا يصحّ السّجود عليه حائلاً بين الجبهة وبين القرطاس .

وأمَّا إذا كانت صبغاً ، أو ممَّا يصحّ السُّجود عليها فلا بأس لمعلوميَّة عدم اعتبار الصبغ .

وقاعدة (عدم حلول العرض بغير حامله) وإن كانت مسلمةً إلَّا أنَّها غير معتبرة شرعاً ، ولذا كان لا عبرةَ بلون النجاسة ورائحتها ، وجاز التيمّم والوضوء باليد المخضوبة ، ونحوها من الأصباغ .

وأمَّا ما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله منِ احتمال عدم تسليم قاعدة (عدم حلول العرض بغير حامله) ، حيث قال : (لما نشاهده بالوجدان من اكتساب حلول الروائح الطيبة والمنتة بالمجاورة ، ونحوها على وجه يقطع بعدم انتقال أجزاء ... )[1] ، ففي غير محلّه .

بل الواقع هناك أجزاء صغيرة جدّاً منتقلة إلى المحلّ الآخر ، ولكن عرفت أنّ هذه الأجزاء الصغيرة غير معتبرة شرعاً .

وممَّا ذكرنا يظهر لك ضعف ما ذكره المصنِّف رحمه الله في الذكرى ، حيث قال فيها : (ويختصّ المكتوب - أي في الإشكال - بأنّ أجزاء الحبر مشتملة غالباً على شيء من المعادن ، إلّا أن يكون هناك بياض يصدق عليه الاسم ؛ وربّما يخيل أنّ لون الحبر عرض والسّجود في الحقيقة إنّما هو على القرطاس ، وليس بشيءٍ لأنّ العرض لا يقوم بغير حامله ، والمداد أجسام محسوسة مشتملة على اللون وينسحب البحث في كلّ مصبوغ من النبات ، وفيه نظر ... )[2] .

وجه الضعف : ما عرفته ، بل لعلّ نصوص السّجود على المروحة التي تعارف صبغ سعفها ، وعلى الخُمْرة ، ناءً على ما قيل في تفسيرها من أنّها سعف مصبوغ بالصفرة ، يُومِئ إلى أنّه لا أثر للصبغة شرعاً .

مضافاً إلى ما هو المعلوم من المذهب من عدم قدح الأصباغ في شيءٍ من ذلك ، والله العالم .

 

سيأتي - إن شاء الله تعالى - الكلام عن مساواة الجبهة للموقف ، معنى عدم علوه أو انخفاضه أزيد من مقدار لبنة ، أو أربع أصابع مضمومات .

والكلام هنا عمّا لو وقعت الجبهة سهواً على ما لا يُسْجد عليه ، فإن كان أعلى من لبنة جاز رفع الرأس والسّجود ثانياً على ما يصحّ السّجود عليه ، ولا يجب عليه الجرّ ، وإن كان متمكناً ، لعدم تحقّق السّجود الشّرعي منه كي يُقال : برفعه يحصل زيادة سجدة .

وبالجملة ، فما لم يصل إلى الحدّ المعتبر لا تتحقّق السّجدة التي جعلها الشارع جزءاً من الصّلاة فرفع الرأس عنه حينئذٍ ليس إلّا كالرفع عن الرّكوع قبل بلوغه إلى حدّ يتمكّن معه من أن يضع يديه على ركبتيه ، هذا إذا كان أعلى من لبنة .

وإن كان لبنة فما دون فقد ذكر أكثر الأعلام أنّه يجب جرّ الجبهة إلى ما يصحّ السّجود عليه ، ولا يجوز رفعها ووضعها ثانياً على ما يصحّ السّجود عليه ، لاستلزامه زيادة سجدة ، خلافاً لصاحب الحدائق رحمه الله ، حيث جوَّز الرفع في هذه الصورة ، بل نسبه إلى الأصحاب من غير خلاف يُعرف إلَّا من صاحبي المدارك والذخيرة .

واعترضه صاحب الجواهر رحمه الله ، حيث قال : (وما نسبه إلى الأصحاب غير ثابت ، بل الذي صرَّح بوجوب الجرّ هنا أيضاً أولئك الجماعة المتقدّمون - إلى أن قال : - فظهر لك حينئذٍ أنّ ما ذكره المحدِّث المزبور - من جواز الرّفع في كلّ ما لا يصحّ السّجود عليه ، وعدم تعيّن الجرّ ، وإن تمكّن منه ، إلّا إذا كان قد وضع على ما يصحّ السّجود عليه ، وقد طلب الأفضل ، ونحوه ، لتحقق السّجود حينئذٍ ففي الرفع زيادة ، بخلاف الأوّل - من متفرداته ، لا كما ظنّه أنّ الأصحاب كذلك ... )[3] .

أقول : سواء كان من منفرداته ، أم لا ، فالنزاع مبنيّ على أنّ وضع الجبهة على ما يصحّ السّجود عليه أمر خارج عن حقيقة السّجود ، ويكون من شروط المسجد وواجباته ، كالذكر والطمأنينة ، حيث إنّهما واجبان في السّجود ، وخارجان عن حقيقته ، كما هو الصحيح عندنا ، أم أنّ وضع الجبهة على ما يصحّ السّجود عليه ليس خارجاً عن حقيقة السّجود ، بل هو مقوِّم له ، بحيث لا يتحقق أصل السجود إذا وضع جبهته على ما لا يصحّ السّجود عليه ، كما عن صاحب الحدائق رحمه الله.

وعليه ، فبناء على القول الأوَّل - وهو الصحيح عندنا - يتعيَّن الجرّ إذ السّجود حاصل ، ولا يجوز الرفع لاستلزامه زيادة السّجدة ، بخلاف الثاني ، إذ يجوز عنده الرفع لعدم تحقّق السّجود ، فلا يلزم من السّجود ثانياً على ما يصحّ السّجود عليه زيادة سجدة.

هذا ، وذكر السّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله (أنّه لا بدّ من رفع الرأس ، ولا ينفع الجرّ حتّى على القول الأوّل الذي اخترناه ، وذلك لأنّ السّجود المأمور به هو خصوص الوضع الحدوثي المتصل بالهوي ، وأمَّا الجرّ فلا ينفع ، لأنّه إبقاء للوضع السابق ، وليس إحداثاً لوضعٍ جديد ، فلا بدّ من الرفع مقدمة للإحداث ؛ وبعبارة مختصرة : الجرّ لا يحصِّل الوضع المتصل بالهوي ، فلا يجزي).


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo