< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

فيرد عليه : أنّ هذا يتمّ لو كان الأمر في (يعيد) مولويّاً فإنّه يختصّ بالفريضة ، ولكنّه ليس كذلك ، بل هو إرشادي إلى فساد الصّلاة ، فلا يختصّ حينئذٍ بالفريضة .

أضف إلى ذلك : أنّ الذَّيْل - وهو قوله (قال : قلت : فمَنْ صلَّى لغير القبلة ، أو في يوم غيم ... ) - هو كلام منفصل عن الصّدر ، وسؤال آخر عن حكم مَنْ صلَّى لغير القبلة ، فإذا قام دليل آخر على تخصيص الذَّيْل بالفريضة فهو لا يقتضي تخصيص الصَّدر به أيضاً .

هذا ، وقد استشكل المحقّق الهمداني رحمه الله على الاستدلال بهذه الصّحيحة بقوله : (مع أنّه لا يستقيم تعميمها بالنسبة إلى النافلة ، لِمَا عرفت من جواز النافلة اختياراً بلا استقبال في الجملة ؛ وإيقاع الصّلاة مستقرّاً أو ماشياً أو راكباً كفِعْلها اختياراً ، أو اضطراراً جالساً أو قائماً ، أو نحو ذلك ، إنّما هو من أحوال كلّ صلاة التي هي النكرة في سياق النفي ، أي من أحوال أفراد العام ، لا من أفراده ، حتّى يقال : خرجت النافلة حال المشي والركون عن تحت العام ، وبقي الباقي بحكمه ، فخروج بعض الأفراد في الجملة - أي : بعض أحواله - كاشف عن عدم اندراج هذا الفرد في موضوع حكم العام ، أو كون الموضوع مقيّداً بغير هذه الحالة ، فيُستكشف من جواز النافلة بغير القبلة ماشياً كون المراد بـ (لا صلاة) : إمّا الصّلاة الواجبة أو الصلّاة المقيّدة بحال الاستقرار ، كما أنّ صحّة الصّلاة بلا استقبال لدى الضّرورة كاشفة عن أنّ المراد بها في حال التمكُّن من الاستقبال ، لا مطلقاً ، وليس تقييدها بحال الاستقرار أَوْلى من تقييدها بالفريضة ، بل الثاني هو الأَولى ، إن لم نقل بأنّه المتعيّن بمقتضى القرائن الداخليّة والخارجيّة ... ) إلى آخر ما ذكره رحمه الله ، حيث أطال كثيراً في بيان ردّ هذه الصّحيحة .

وحاصله بشكل مختصر : أنّ قوله عليه السلام : (لا صلاة إلّا إلى القبلة) فيه عموم أفرادي وأحوالي ، وكلاهما مستفادان من شيء واحد ، وهو تسليط النفي على الطبيعة على سبيل الإطلاق .

وعليه ، فيكون الحكم منفيّاً عن كلّ فرد ، وفي كلّ حال ، وإلّا لم يكن ذلك نفياً للطبيعة ، فالعموم الأحوالي نشأ من تسليط النفي على طبيعة كلّ فرد على الإطلاق .

ومن المعلوم أنّ الأحوال اللاحقة للأفراد من كون الصّلاة في حال الاستقرار أو المشي أو الركوب أو القيام أو في حال الاختيار أو الاضطرار ، ونحو ذلك ، إنّما هو من أحوال أفراد العام ، لا من أفراد نفس العام ، إذ ليس الفرد باعتبار الحالين فردين من العام .

وعليه ، فإذا ثبت من الخارج عدم اعتبار الاستقبال في النافلة حال السير ، فيكون منافياً للعموم الأفرادي والأحوالي ، باعتبار أنّهما مستفادان من شيءٍ واحد ، وهو تسليط النفي على الطبيعة على سبيل الإطلاق .

وعليه ، فلا بد من ارتكاب أحد التقييدين :

إمّا الالتزام بأنّ المراد بـ (لا صلاة إلّا إلى القبلة) الصّلاة الواجبة ، فتخرج النافلة عنها رأساً ، فيخصّص عمومها الأفرادي .

وإمَّا الالتزام بتقييدها بحال الاستقرار ، فيتحفظ على العموم الأفرادي ، ويلتزم بالتقييد في الإطلاق الأحوالي .

وليس التقييد الثاني أَوْلى من التقييد الأول ، فتكون الصّحيحة مجملة ، لا ظهور فيها في الإطلاق الأفرادي ، بحيث تشمل الفريضة والنافلة .

ويرد عليه : أنّه فرق بين الجواهر والأعراض ، فإنّ الجوهر لا يتعدّد باختلاف الحالات ، مثلاً زيد إذا عرضت عليه حالات مختلفة ، مثل كونه ضاحكاً راكباً متزوّجاً عالماً ، كونه في الزمان الفلاني والمكاني ، كلّ هذه الحالات لا تجعله فردَيْن ، بل هو فرد واحد في الخارج عرضت عليه هذه الأحوال ، وهذا بخلاف الأعراض ، فإنّ عروض الحالات على أيّ عرض يوجب تعدّده خارجاً ، مثلاً الجلوس في الدار فرد مغاير في الخارج للجلوس في المسجد ، وهما مغايران للجلوس في الحمام ، وهكذا بقية الأعراض .

ومرجع التفرقة بينهما إلى أنّ الجوهر له ثبات واستقرار ، فلا يتعدّد بتعدّد عوارضه ، بخلاف العرض فإنّه لمكان تصرّمه وعدم ثباته ، فكلّ حالة تطرأ عليه توجب إحداث فرد جديد للطبيعة .

ومسألتنا من هذا القبيل ، فإنّ الصّلاة مع الاستقرار غير الصّلاة ماشياً ، وهي غيرها راكباً .

وعليه ، فليست حالتا الاستقرار والسّير العارضتان على النافلة حالتين لفرد واحد كي يدور الأمر بين تقييد العموم الأفرادي والأحوالي ، بل كلّ ذلك أفراد لطبيعة الصّلاة ، والعموم في مثلها أفرادي فقط ، فلا بدّ في التقييد من الاقتصار على مقدار دلالة الدليل ، وهو النافلة حال السّير ، فيبقى الباقي تحت الإطلاق ، أي يجب الاستقبال في الفريضة ، وفي النافلة حال الاستقرار .

والإنصاف : أنّ دلالة هذه الصّحيحة على المطلوب لا ينبغي إنكاره ، والله العالم .

وأمّا القول بعدم اشتراط الاستقبال فقد استُدلّ له بعدّة أدلّة :

منها : أصل البراءة ، فيما لو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيين ، فإذا شككنا في شرطيّة الاستقبال ، فالأصل عدمها .

وفيه : أنّ هذا يتمّ لو لم يوجد ما يدلّ على الاشتراط ، وقد عرفت أنّ الدليلين الأخيرين تامّان ، فلا موضوع حينئذٍ للأصل العملي .

ومنها : صحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر عليه السلام (أنّه قال : استقبل القبلة بوجهك ، ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فإنّ الله عزّوجل يقول لنبيه في الفريضة : فولّ وجهك شطر المسجد الحرام)[1] .

قال المحقّق الهمداني رحمه الله : (فإنّ ظاهرها اختصاص الحكم بالفريضة ، حيث إنّ دليله على ما صرّح به الإمام عليه السلام مخصوص بها)[2] .

ويرد عليه ، أنّ هذا الاختصاص مرجعه إلى الالتزام بمفهوم الوصف كي يدلّ التقييد بالفريضة على انتفاء الحكم ، ولكنّك عرفت في مبحث المفاهيم أنّ الوصف لا مفهوم له .

هذا ، وذكر السّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله أنّ الرّواية الشّريفة أجنبية عن محلّ الكلام ، بل هي ناظرة إلى حكم آخر ، وهو قاطعيّة الالتفات إلى الخلف أو اليمين أو الشمال أثناء الصّلاة ، بدليل قوله : (ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد)[3] ، والاستشهاد بالآية إنّما هو لهذه الغاية ، وأمّا أصل اعتبار الاستقبال في الصّلاة فالصحيحة غير متعرّضة لذلك) .

ويرد عليه ، أنّ الرّواية الشّريفة فيها فقرتان :

الأُولى : قوله : (استقبل القبلة بوجهك) .

الثانية : قوله : (ولا تقلب بوجهك عن القبلة) .

ومحلّ الكلام والاستشهاد هو الفقرة الأولى ، أي : (استقبل القبلة بوجهك) ، وقوله عليه السلام : (فإنّ الله عزّوجل يقول لنبيه في الفريضة : فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) راجع إلى الفقرة الأُولى كما لا يخفى ، لا إلى الفقرة الثانية كي تخرج عن محلّ الكلام .

وبالجملة ، فما ذكره السيد رحمه الله ليس بتام .

ومنها : ما عن ابن إدريس رحمه الله في آخر السّرائر نقلاً من كتاب الجامع للبنزنطي صاحب الرّضا عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل يلتفت في صلاته ، هل يقطع ذلك صلاته ؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، فيعيد ما صلّى ، ولا يعتدّ به ، وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ، ولكن لا يعود)[4] ، رواه الحميري في قرب الإسناد[5] .

وفيه أوَّلاً : أنّه ضعيف السّند بالإرسال ، حيث لم يذكر ابن إدريس رحمه الله طريقه إلى جامع البزنطي ، كما أنّه ضعيف في قرب الإسناد بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل .

وثانياً : أنّها واردة في الالتفات إلى الخلف ، أي إنّ الالتفات قاطع للصّلاة ، وهذا مبحث آخر لا ربط له باشتراط أصل الاستقبال .

ومنها : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - (قال : قال : إذا التفت في صلاةٍ مكتوبةٍ من غير فراغ فأعد الصّلاة إذا كان الالتفات فاحشاً ، وإن كنت قد تشهدت فلا تُعِد)[6] ، وهي ظاهرة في اختصاص الحكم بالفريضة فلا يكون الالتفات الفاحش المنافي للاستقبال قادحاً في النافلة .

وفيه أوّلاً : أنّها ناظرة إلى أنّ الالتفات قاطع للصّلاة ، وقد عرفت أنّ هذا مبحث آخر لا ربط له باعتبار أصل الاستقبال .

وثانياً - مع قطع النظر عن ذلك - : فإنَّه مبني على مفهوم الوصف ، وقد عرفت أنَّ الوصف لا مفهوم له .

ومنها : ما رواه العيّاشي في تفسيره عن زرارة (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : الصّلاة في السّفر في السّفينة والمحمل سواء ؟ قال : النافلة كلّها سواء ، تُومِئ إيماءً أينما توجّهت دابتك وسفينتك ، والفريضة تنزل لها عن المحمل إلى الأرض ، إلّا من خوف فإنّ خفت أومأت ، وأمّا السّفينة فصلّ فيها قائماً ، وتوخَ القبلة بجهدك ، فإنّ نوحاً عليه السلام قد صلّى الفريضة فيها قائماً متوجّهاً إلى القبلة وهي مطبقة عليهم ، قال : قلت : وما كان علمه بالقبلة ، فيتوجهها ، وهي مطبقة عليهم ؟ قال : كان جبرائيل عليه السلام يقوّمه نحوها ، قال : قلت : فأتوجه نحوها في كلّ تكبيرة ؟ قال : أمّا في النافلة فلا ، إنّما تكبر على غير القبلة : الله أكبر ، ثمّ قال : كلّ ذلك قبلة للمتنفِّل ، أينما تولوا فثمّ وجه الله )[7] .

 


[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، أبواب القبلة، باب3، ح8، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، أبواب القبلة، باب3، ذيل ح8، ط آل البیت.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo