< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

هذا إذا لم تكن متحدة مع ما قبلها ، وإلا فهي ضعيفة أيضا بما عرفت .

ومنها : رواية بشر بن جعفر الجعفي عن جعفر بن محمّد عليه السلام (قال سمعته يقول : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للنّاس جميعاً)[1] ، وهي ضعيفة جدّاً بجهالة أغلب رجال السّند .

ومنها : رواية أبي غرّة (قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : البيت قبلة المسجد ، والمسجد قبلة مكّة ، ومكّة قبلة الحرم ، والحرم قبلة الدنيا)[2] .

وفيها - مضافاً لضعفها بأبي غرة فإنّه مجهول - : أنّها مشتملة على شيءٍ لم يقل به أحد من الأعلام ، وهو كون مكّة قبلة الحرم ، وهذا ممّا يزيد في وهنها ؛ نعم تصلح للتأييد .

وممَّا يؤيِّد هذا القول : الأخبار الدّالة على استحباب التياسر الواردة في أهل العراق ، لأنّها مقتضى كون الحرم قبلةً .

وفيها : ما سيأتي .

وبالجملة ، فإنّ هذه الأخبار كلّها ضعيفة السّن ، مع معارضتها بالأخبار المتقدّمة التي هي أرجح منها من حيث الشّهرة والكثرة .

وأمّا القول : بأنّ أكثر الأخبار المتقدّمة لم يتعرض فيها للتفصيل المزبور ، أي عين الكعبة قبلة للمتمكّن من مشاهدتها ، وجهتها قبلة لغيره .

ففيه : أنّ عدم التعرض في أكثرها لذلك إنّما هو استغناء عنه بالأمر باستقبال الكعبة ، وكونها قبلة ، ضرورة ظهوره في إرادة الجهة من غير المتمكّن ، والعين من المتمكّن تحصيلاً للصدق فيهما .

وعليه ، فيحتمل قويّاً كون النزاع بين الأعلام لفظيّاً ، إذ أقصى ما يتصوّر من الثمرة بين القولين هو جواز استقبال غير الكعبة من المسجد أو الحرم لمن كان متمكّنا منها على القول الثاني ، وعدم الجواز على الأوّل ، ووجوب استقبال المسجد والحرم لغير المشاهد على القول الثاني ، ووجوب استقبال جهة الكعبة على القول الأوّل .

ويدفع الثمرة الأُولى : ما عن جماعة ممَّن عرفت الخلاف منهم ، كالشّيخ رحمه الله في المبسوط وغيره ، حيث صرّحوا بوجوب استقبال العين لمن كان متمكّنا منها ، قال رحمه الله في المبسوط : (المكلّفون على ثلاثة أقسام ، منهم من يلزمه التوجّه إلى نفس الكعبة ، وهو كلّ مَنْ كان مشاهداً لها ، بأن يكون في المسجد الحرام ، أو في حكم المشاهد بأن يكون ضرريّاً ، أو يكون بينه وبين الكعبة حائل ، أو يكون خارج المسجد ، بحيث لا تخفى عليه جهة الكعبة)[3] ، وهو واضح في وجوب استقبال العين ، وكذا غيره من أصحاب القول الثاني .

وأمَّا الثمرة الثانية : فهي مدفوعة أيضاً ، ضرورة احتمال إرادة الجهة من المسجد والحرم ، وأنهم إنّما ذكروا ذلك على سبيل التقريب إلى الأفهام إظهاراً لسعة الجهة .

ومن هنا ذكر المصنّف رحمه الله في الذكرى : (أنّ الجرم الصغير كلّما ازداد القول عنه بُعداً ازدادوا له محاذاة [4] ، ومن الظّاهر أنّ ذلك لا يقتضي استقبال العين ، إذ لو خرجت خطوط متوازية من مواقف البعيد المتفقة الجهة على وجه يزيد على حرم الكعبة لم تتصل الخطوط أجمع بالكعبة ، وإلّا لخرجت عن كونها متوازية .

ومن هنا قلنا : إنّ البعيد قبلته جهة الكعبة لا عينها ، وكيفية استقبال الكعبة عينا أو جهة أمر عرفي لا مدخليّة للشّرع فيه .

وعليه ، فلا ريب في توقّف صدق الاستقبال للشيء عرفاً على حصول المقابلة له من المستقبل ، وإلّا لم يكن مستقبلاً له قطعاً .

نعم ، لا يعتبر في الصّدق المزبور وقوع خطّ المستقبل حال استقباله على المستقبل بالفتح مطلقاً ، ضرورة تحقّقه عرفاً في المشاهد من الأجرام وإن قطعنا بعدم اتّصال الخطوط بها .

وبالجملة ، فلا يعتبر في صدق الاستقبال عرفاً المحاذاة الحقيقية ، بحيث لو خرج خطّ مستقيم من مقاديم المستقبل قائم على خطّ خارج من يمينه وشماله لوقوعه على الكعبة ، بل أعمّ من ذلك ، فإنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد ، فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلاً بوجهك ، وكنت قريباً منهم جدّاً ، لا يكون قبلتك من أهل الصفّ إلّا واحداً منهم بحيال وجهك .

ولكنّك إذا رجعت القهقرى بخطّ مستقيم إلى أن بعدت منهم مقدار فرسخ مثلاً لرأيت مجموع الصفّ بجملته بين يديك بحيث لا تميز مَنْ يحاذيك حقيقة عن الآخر ، مع أنّ المحاذاة الحقيقيّة لا تكون إلّا بينك وبين ما كانت أوّلاً ، وإن أردت مثالاً أوضح فانظر إلى عين الشّمس أو الكواكب التي تراها قبال وجهك فإنّ جرم الشّمس وكذا الكواكب وما بينها من الفاصل أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة .

ومع ذلك ترى مجموعها بين يديك حيال وجهك ، فلو فرض أنّ الله تعالى جعل قبلتك الشّمس أو كوكباً من تلك الكواكب ، فهل ترى مائزاً بين وقوفك مقابل هذا الطرف من الشّمس ، أو الطرف الآخر ، وبين هذا الكوكب والكوكب الآخر القريب منه ، مع أنّ البعد بينهما أزيد من مساحة الأرض ، ولا يعقل أن يحاذيك حقيقةً إلّا جُزء منها بمقدار بدنك .

وقِس على ذلك ما نحن فيه ، فمن كان قريباً من الكعبة الشريفة ، بحيث ينتفي عنه اسم الاستقبال بمجرد عدم اتّصال خطّ موقفه بها ، وجب عليه مراعاة الاتصال .

ومن لم يكن كذلك ، بل كان يصدق عليه أنّه مستقبل لها وإن لم يعلم اتصال خطّ موقفه ، بل وإن علم العدم لم يعتبر فيه ذلك ، ضرورة أنّه ليس في الأدلّة إلّا الأمر بالاستقبال الذي قد فرض صدقه ، فالمشاهدة وعدمها لا مدخليّة لها قطعاً .

ودعوى : أنّه ليس صدقاً حقيقيّاً ، بل هو مسامحة عرفيّة يكذبها الوجدان ، وعلى كل حال فليس المدار حينئذٍ في القريب والبعيد إلّا استقبال الكعبة عيناً ، أو جهة ، التي لم يقبل الله من أحد توجّهاً إلى غيرها .

ولعلّه من هنا ذكر غير واحد من الأصحاب أنّ محراب المعصوم عليه السلام الثابت نصبه منه ، أو صلاته فيه ، من غير انحراف مثلاً بالتواتر ونحوه ، مما يفيد العلم بحصول الجهة ، أي مقابلة البعيد للكعبة من غير اعتبار اتصال الخطوط ، ضرورة عدم التكليف بذلك بنصّ الآية والرّواية ، فلا بأس حينئذٍ بصلاة المعصوم عليه السلام في أمكنةٍ متعدّدة متساوية في الخطّ أوسع من عرض الكعبة ، بحيث يقطع بعدم اتصال الخطوط بها بعدم حصول المقابلة المزبورة .

وما ورد في محراب المدينة من أنّه زويت له (صلى الله عليه وآله) الأرض حتّى نصبه بإزاء الميزاب - مع إمكان حمله كما في جامع المقاصد على إرادة المقابلة المزبورة ، لا المحاذاة المعتبر فيها اتصال الخطوط - غايته علمه (صلى الله عليه وآله) بالعين ، ولا يدلّ على وجوب توجّهه (صلى الله عليه وآله) إليها فضلاً عن غيره .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo