< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/05/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

في المدارك : (وهذا الحكم - أعني : جواز التعويل على قِبلة المسلمين - إجماعيّ بين الأصحاب ، قاله في التذكرة ، وإطلاق كلامهم يقتضي أنَّه لا فرق في ذلك بين ما يفيد العلم بالجهة ، أو الظنّ ، ولا بين أن يكون المصلِّي متمكناً من معرفة القِبلة بالعلامات المفيدة للعلم ، أو الاجتهاد المفيد للظنّ ، أو ينتفي الأمران ، وربَّما ظهر من قولهم : فإنْ جهلها عوَّل على الأمارات المفيدة للظنّ ، عدم جواز التعويل عليها للمتمكِّن من العلم إلَّا إذا أفادت اليقين ، وهو كذلك ، لأنَّ الاستعمال على اليقين ممكن ، فيسقط اعتبار الظنّ ... )[1] .

وفي الجواهر : (إجماعاً في التذكرة ، والمحكي عن كشف الالتباس ، معتضداً بالتتبع لكلمات الأصحاب ، وبالسِّيرة القطعيَّة في جميع الأعصار والأمصار ، وبأنَّ استمرار عملهم من أقوى العلامات المفيدة للقِبلة ، ومنها المحاريب المنصوبة في جوارهم التي يغلب مرورهم عليها ، أو في قرية صغيرة نشأت قرون منهم فيها ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون متمكناً من مراعاة الأمارات الشرعيَّة أو لا ، بل وسواء كان متمكناً من العلم بالجهة - كما إذا كان فيها محراب معصوم - أو لا ... )[2] .

أقول : إذا كانت قِبلة البلد من الأمارات الموجبة للقطع بجهة القِبلة ، كما هو الغالب فلا كلام حينئذٍ .

وأمَّا إذا لم تكن مفيدة للقطع ، بل كانت مفيدة للظنّ ، فإنْ لم يمكن تحصيل العلم فلا إشكال أيضاً في جواز الاعتماد عليها ، لِمَا عرفت سابقاً من عدم ابتناء أمر القِبلة على القواعد الرياضيَّة ، وأنَّ المعوَّل عليه في تشخيصها هي الطرق المتعارفة عند العرف والعقلاء .

ومن الواضح أنّ استمرار عمل أهل البلد من أوضح الطرق التي يعوِّل عليها العرف في تشخيص القِبلة .

ومن هنا استمرت سيرة المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على التعويل علهيا .

والخلاصة : أنَّه لا إشكال في ذلك .

وإنَّما الكلام فيما إذا لم تكن قِبلة البلد مفيدة للعلم بالجهة ، بل كانت مفيدة للظنّ ، وأمكنه تحصيل العلم بجهة القِبلة ، فهل يكتفي بالرِّجوع إليها ، كما هو ظاهر أكثر الأعلام ، ومنهم صاحب الجواهر رحمه الله ، أم يجب عليه تحصيل العلم ؟

والإنصاف : أنَّه لا يوجد دليل مطلق يُستفاد منه التعويل على قِبلة بلد المسلمين مطلقاً وإن لم يفد الرجوع إليها إلَّا الظن ، وأمكنه تحصيل العلم ، بل الموجود هو الإجماع المدَّعى وسيرة المسلمين ، وهما دليلان لُبِّيان يُقتصر فيهما على القدر المتيقَّن .

وعليه ، فلا يُكتفى بالرِّجوع إليها إذا أفادت الظنّ ، وأمكنه تحصيل العلم .

ثمَّ إنَّه هل يجوز الاجتهاد في الجهة ، أم لا ؟

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (ولا يجوز الاجتهاد في الجهة قطعاً ، وهل يجوز التيامن والتياسر ؟ الأقرب جوازه ، لأنَّ الخطأ في الجهة مع استمرار الخَلْق واتفاقهم ممتنع ، أمَّا الخطأ في التيامن والتياسر فغير بعيد ، وعن عبد الله بن المبارك : أنَّه أَمَر أهل مرو بالتياسر بعد رجوعه من الحجّ ، ووجه المنع أنَّ احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب من احتمال إصابة الواحد ، وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قِبلة مسجد دمشق ، وأنَّ فيها تياسراً عن القِبلة ، مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك ، وجاز ترك الخلق الكثير الاجتهاد في ذلك ، لأنَّه غير واجب عليهم ، فلا يدلّ مجرد صلاتهم على تحريم اجتهاد غيرهم ، وإنَّما يعارض اجتهاد العارف لو ثبت وجوب اجتهاد الكثير ، أو ثبت وقوعه ، وكلامهما في حَيِّز المنع ... )[3] .

أقول : المراد من عدم جواز الاجتهاد في الجهة التي عليها قِبلة البلد هو الاجتهاد إلى إحدى الجهات الأربع ، كجهة المغرب مثلاً ، بأنْ يجتهد فيها إلى جهة الشّمال ، ونحوها .

ثمَّ إنَّ ما ذكره المصنّف رحمه الله من جواز الاجتهاد تيامناً وتياسراً في غاية الصحّة والمتانة ، بل الظّاهر أنّه لا خِلاف فيه بين الأعلام ، والله العالم .

قوله : (ويعوَّل على قِبلة البلد ما لم يعلم بناها على الخطأ ، ويجوز الاجتهاد في تيامنها وتياسرها)[4]

قال المصنف رحمه الله في الذكرى (وفي التعويل على قِبلة النصارى واليهود نظر من أنه ركون إليهم ، ومن الظن الغالب باستقبالهم الجهة المعنية )[5] .

أقول : إذا حصل الظن بجهة القِبلة من استقبالهم الجهة الميعنة فيتجزئ به ، لأنه تحري واجتهاد عند تعذر حصول العلم ، فيشمله قوله عليه السلام في صحيحة زرارة السابقة : (يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القِبلة) ولا معنى للمنع بأنه ركون إليهم ، إذ المهم حصول التحري والاجتهاد مهما كان السبب ، والله العالم .

 

قوله : (وفي التعويل على قبلة أهل الكتاب مع تعذُّر غيرها احتمال قوي)

قوله : (ومع تعذُّر الأمارات والتقليد فالصّلاة إلى أربع جهات مع سِعة الوقت ، ومع ضيقه إلى المحتمل ولو جهة واحدة)

ذكرنا حكم ما لو فقد العلم والظن عند قول المصنف سابقاً : (ولو خفيت عليه الأمارات ففيه القولان ) ، وقلنا : إن مقتضى الإنصاف هو الصلاة إلى جهة واحدة ولا يجب عليه الصلاة إلى أربع جهات ، مع سعة الوقت فراجع ما ذكرناه ، فإنه مهم .

قوله : (ولو اختلف الإمام والمأموم في الاجتهاد تيامناً وتياسراً فالأقرب : جواز القدوة)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى ( لوِ اختلف الإمام والمأموم في التيامن والتياسر فالأقرب جواز الاقتداء ، لأنَّ صلاة كلّ منهما صحيحة مغنية عن القضاء ، والاختلاف هنا يسير ، لأنَّ الواجب مع البُعد الجهة ، وهي حاصلة هنا ؛ والتكليف بالعين مع البُعد ضعيفة ، وقوَّى في التذكرة : عدم الجواز ، وبناؤه على أنَّ الواجب إصابة العين ، مع أنَّه صدَّر باب القِبلة بعدم وجوبه ) .

وقال قبل ذلك في المسألة السَّادسة : ( لوِ اختلف المجتهدون صلُّوا فرادى ، لا جماعةً ، لأنَّ المأموم إن كان محقّاً في الجهة فسدت صلاة إمامه ، وإلَّا فصلاته ، فيُقطع بفساد صلاة المأموم على التقديرَيْن ، واحتمل الفاضل : صحَّة الاقتداء ، كالمصلّين حال شدّة الخوف ، ولأنّهم كالقائمِين حول الكعبة ، يستقبل كلّ واحد منهم جهته ، غير الآخر ، مع صحّة الصّلاة جماعةً ؛ ويمكن الجواب : بمنع الاقتداء حال الشِّدة مع اختلاف الجهة ، ولو سُلِّم فالاستقبال هنا ساقط بالكليَّة ، بخلاف المجتهدين ، والفرق بين المصلِّي نواحي الكعبة وبين المجتهدين ظاهر ، للقطع بأنَّ كلّ جهة قِبلة هناك ، والقطع بخطأ واحد هنا ، وكذا نقول في صلاة الشدة : إنّ كلّ جهة قِبلة ) .

وفي الجواهر : (أنَّه لا بأس بائتمام المجتهدين بعضهم ببعض وإن تضادوا في الاجتهاد أوِ اختلفوا بالكثير ، فضلاً عن الاختلاف اليسير ، لصحَّة صلاة كلّ واحد منهم واقعاً ، بقاعدة الإجزاء وغيرها ، ممَّا عرفته سابقاً ، وفاقاً لكشف اللثام ... )[6] .

اِعلم أوَّلاً : أنَّ الانحراف اليسير الذي لا يخرج عن القِبلة هو ما بين المشرق والمغرب ، والانحراف الكثير ما كان على سَمْتِ اليمين ، أو اليسار .

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان الاختلاف يسيراً فتصحّ صلاة الإمام واقعاً بنظره ، ونظر المأموم .

وعليه ، فلا مانع من صحَّة الاقتداء به .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo