الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/05/09
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : القبلة
ومنها : رواية محمَّد بن الحُصَيْن (قال : كتبتُ إلى عبد صالحٍ : الرَّجل يصلِّي في يومِ غيمٍ في فلاةٍ من الأرض ، ولا يعرف القِبلة ، فيصلِّي حتَّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشَّمس ، فإذا هو قد صلَّى لغير القبلة ، أيعتدّ بصلاته ، أم يعيدها ؟ فكتب : يعيدها ، ما لم يفته الوقت ، أو لم يعلم أنَّ الله يقول - وقوله الحقّ - : فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله)[1] ، وهي ضعيفة أيضاً بجهالة محمد بن الحُصَين .
ثمَّ إنَّ مقتضى الجمع بين هذه الأخبار ، والأخبار المتقدِّمة الدَّالة على الصحَّة إذا صلَّى إلى غير القبلة : هو حَمْل هذه الأخبار على ما إذا كان الانحراف كثيراً ، واصلاً إلى حدِّ المشرق والمغرب ، أو إلى الاستدبار ، كما أنَّ مقتضى إطلاقها عدم القضاء خارج الوقت حتَّى في حال الاستدبار .
والحاصل من مجموع الأخبار : أنَّه إذا كان الانحراف فيما بين المشرق والمغرب فقد مضت صلاته ، وإلَّا أعادها في الوقت لا في خارجه ، من غير فرق بين الاستدبار أو التشريق أو التغريب .
وأمَّا القول الآخر - أي : الإعادة في خارج الوقت أيضاً في صورة الاستدبار - فقد يستدلّ لهم بثلاثة أدلَّة :
الأوَّل : رواية عمرو بن يحيى المتقدِّمة (قال : سألتُ أبا عبد الله ’ عن رجلٍ صلَّى على غير القبلة ، ثمَّ تبيَّنتِ القبلة ، وقد دخل وقت صلاة أخرى ، قال : يعيدها قبل أن يصلِّي هذه التي قد دخل وقتها ... )[2] .
وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة كما تقدَّم بأحمد بن عَمْرِو بن كيسبة ، فإنَّه مهمل .
وثانياً : أنَّه يُحتمل إرادة وقت الفضيلة من وقت الأخرى ، كما يشير إليه عدم تصريح السَّائل بخروج وقت الأُولى .
وثالثاً : لا توجد قرينة على إرادة خصوص الاستدبار من غير القِبلة .
وعليه ، فلا يلتفت إلى هذه الرِّواية ، خصوصاً بالنسبة إلى ما بين المشرق والمغرب ، فإنَّه لم يذهب أحد ممَّا يعتدّ به إلى القضاء خارج الوقت فيما لو كان منحرفاً ما بين المشرق والمغرب .
بل وكذا نفس المشرق والمغرب ، فإنَّ مَنْ ذهب إلى القضاء فإنَّما ذهب فيما لو كان مستدبراً .
ورابعاً - مع غضّ النظر عن كلِّ ذلك - : فإنَّه يمكن حَمْلها على الاستحباب .
الثاني : موثَّقة عمَّار المتقدِّمة (في رجلٍ صلَّى على غير القِبلة ، فيعلم - وهو في الصَّلاة - قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : إن كان متوجِّهاً فيما بين المشرق والمغرب ، فَلْيحوِّل وجهه إلى القِبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجِّهاً إلى دبر القِبلة فَلْيقطع الصَّلاة ، ثمَّ يحوَّل وجهه إلى القِبلة ، ثمَّ يفتتح الصَّلاة)[3] .
وفيه أوَّلاً : أنَّها ظاهرة في الوقت لا خارجه حتَّى يكون داخلاً في محلّ الكلام .
وحَمْلها على ما إذا كان صلاته في آخر الوقت - بحيث علم بذلك بعد إدراك الرّكعة منها مثلاً ، وخروج الوقت - فبعيد جدّاً في هذه الموثَّقة .
مع أنَّ الظَّاهر من الاستدبار فيه بقرينة المقابلة ما يعمّ اليمين واليسار وقضاء الصَّلاة معهما مخالف للتسالم .
الثالث : مرسلة الشَّيخ رحمه الله في النهاية (قال : رُويت رواية أنَّه إذا كان صلَّى استدبار القبلة ، ثمَّ علم بعد خروج الوقت ، وجب عليه إعادة الصَّلاة)[4] .
وفيها أوَّلاً : أنَّها من أضعف أنحاء الإرسال ، لكونها نقلاً لمضمون رواية مجهولة العين ، فيحتمل قويّاً كونها نقل مضمون موثَّقة عمَّار بحسب ما أدى إليه نظر الناقل .
وثانياً : أنَّ الشَّيخ رحمه الله الناقل لها لم يعمل بها في باقي كتبه .
وأمَّا في النهاية فقال : (هذا هو الأحوط ، وعليه العمل) ، وهو غير ظاهر في الاعتماد إلَّا من جهة الاحتياط .
والخلاصة : أنَّ ما ذهب إليه الأعلام من عدم القضاء خارج الوقت هو الصحيح ، والله العالم .
ثمَّ إنَّه بناءً على ما ذكرناه لا نحتاج إلى تحقيق المراد من الاستدبار ، ضرورة مساواته حينئذٍ في الحكم للمشرق والمغرب .
مع أنَّ الإنصاف فيه : أنَّ الاستدبار يتحقّق بمجاوزة المشرق والمغرب ، وإن لم يبلغ مقابل القِبلة ، لصدق الخروج عن القبلة والاستدبار لغةً وعرفاً .
ويؤكِّده : موثَّقة عمَّار المتقدِّمة ، خلافاً للشَّهيد الثاني رحمه الله في المسالك ، حيث قال : (المراد بالاستدبار ما قابل جهة القِبلة ، بمعنى أنَّ كل خطٍّ يمكن فرض أحد طرفيه جهة لها فالطرق الآخر استدبار ... )[5] .
ومهما يكن ، فالأمر سهل بعد ما عرفت .
وممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ المراد بالمغرب والمشرق كناية عن اليمين واليسار ، وخصَّا بالتعبير في الرِّواية لأجل قِبلة الرَّاوي والمروي عنه ، وللغلبة .
وذكر بعض الأعلام أنَّ ما بين المشرق والمغرب بالنسبة إلى أهل العراق واليمين ، وأنَّ ما بين الشِّمال والجنوب فهو بالنسبة إلى أهل المشرق وأهل المغرب ، وأنَّ ما بين القوس الجنوبي فهو بالنسبة إلى أهل الشَّام ، وقس على هذا .
وممَّا يؤكِّد ما ذكرنا تعبير أكثر القدماء باليمين واليسار الذي نصّ بعضهم على أنَّه أشمل من التعبير بالمشرق والمغرب ، بل قيل : لم يُعبِّر أحد قبل الفاضلين بالمشرق والمغرب ، بل عن المصنِّف رحمه الله في الذكرى (أنَّ ظاهر كلام الأصحاب أنَّ الانحراف الكثير ما كان إلى سَمْت اليمين واليسار ، أو الاستدبار ، لرواية عمَّار ... )[6] .
قوله : (وأمَّا الناسي فالظَّاهر أنَّه كالظانّ)[7]
المعروف بين الأعلام أنَّه لا فرق بين ما لو ظنّ بالقبلة ، أو غفل عن مراعاتها ، أو اعتقد اعتقاداً جزميّاً ، بأنَّ الجِهة التي يصلِّي إليها قِبلة على نحو الجهل المركب ، أو على نحو النسيان ، والاشتباه ، ففي جميع هذه الصور لو تبيَّن خطأه بعد الفراغ من الصَّلاة ، وكان الانحراف يسيراً - أي : فيما بين المشرق والمغرب -لم يُعِد الصَّلاة ؛ ولو كان كثيراً أعادها في الوقت ، لا في خارجه .
ولو تبيَّن في الأثناء استقام ، ومضى في صلاته ، إذا كان منحرفاً فيما بين المشرق والمغرب ، وإن كان الانحراف كثيراً استأنف .
ووجه الصّحَّة فيما لو كان فيما بين المشرق والمغرب في جميع الصُّوَر : هو إطلاق صحيحة معاوية بن عمَّار المتقدِّمة ، وكذا غيرها ممَّا تقدَّم ، فإنَّ مقتضى إطلاق الأخبار المتقدِّمة الدَّالة على صحَّة الصَّلاة الواقعة فيما بين المشرق والمغرب ، خصوصاً الصحيحتين - صحيحة معاوية وصحيحة زرارة - المتقدّمتَيْن الدَّالتَيْن على أنَّ ما بين المشرق والمغرب قِبلة ، عدم الفرق بين ما لو صلَّى غفلةً أو خطأً ، لزعم كون ما يصلِّي إليه قبلةً جازماً بذلك أو ظانّاً أو ناسياً أو غافلاً .
وأمَّا صورة الانحراف الكثير التي يعيد في الوقت ، لا خارجه ، فالدليل على الشمول للظانّ ، والجازم خطأ ، والناسي ، والغافل ، هو إطلاق صحيح عبد الرّحمان المتقدِّم .