< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/05/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

وأمَّا التخصيص بالاجتهاد - أي : الظانّ بالقِبلة - دون غيره من بقية الصّور ، كما في صحيحة سُليمان بن خالد (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام الرَّجل يكون في قفر من الأرض ، في يوم غيم ، فيصلِّي لغير القِبلة ، ثمَّ يضحى فيعلم أنَّه صلَّى لغير القبلة ، كيف يصنع ؟ قال : إن كان في وقتٍ فَلْيُعد صلاته ، وإن كان قضى الوقت فحسبه اجتهاده)[1] ، فلا تصلح لتقييد صحيحة عبد الرَّحمان المتقدِّمة .

ولا لتقييد صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (قال : إذا صلَّيت على غير القِبلة ، فاستبان لك قبل أن تُصْبح أنَّك صلَّيت على غير القِبلة ، فأعدْ صلاتَك) [2] .

والسِّرُ في عدم صلاحيّته للتقييد : هو أنَّ تخصيص الاجتهاد بالذِّكر لكونه جارياً مجرى الغالب ، فلا خصوصيَّة له ، إذ الغالب عندما يكون الإنسان في قفر من الأرض ، واليوم غيم ، يجتهد في أمر القِبلة حتَّى يصلِّي .

وعليه ، فلا يدلّ على المفهوم حتَّى يتقيّد به الإطلاق .

ثمَّ اعلم أنَّ ناسي الحكم كالجاهل به في بطلان الصَّلاة مطلقاً لو مع الانحراف اليسير حتَّى مع الجهل بالحكم قصوراً ، فضلاً عن التقصير ، فإنَّ القصور يجعله معذوراً من حيث المؤاخذة ، لا من حيث الإعادة بعد العلم والالتفات .

والسِّرّ في ذلك هو أنَّ المتبادر من الأدلَّة هو إرادة جاهل الموضوع وناسيه ، وغافله ، لا الجاهل بالحكم .

مضافاً إلى أنَّه لا يمكن اختصاص البطلان بالعالم بالحكم ، بل الأحكام مشتركة بين العالم وبالجاهل ، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة .

وعليه ، فالحكم بالصحّة فيما تقدّم إنَّما هو لِمَنْ لم يعلم بجهة الكعبة ، بل ولمن لم يتمكّن من تشخيصها ، لا لِمَنْ علم بها ، أو تمكَّن من تشخيصها ، ولكن لم يستقبلها لجهله بالحكم الشّرعي ، والله العالم .

قوله : (ويسقط الاستقبال عند الضَّرورة وإن علم القِبلة ، كصلاة المطاردة وكالمصلوب ، والمريض الذي لا يجد من يوجّهه إليها)[3]

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (يسقط الاستقبال في الصَّلاة عند الضَّرورة ، وعدم التمكُّن منه ، كالمصلوب والمريض الذي لا يجد من يوجّهه إلى القِبلة مع عجزه عنها ، وكالمضطرّ إلى الصَّلاة ماشياً مع عدم إمكان الاستقبال ، وكما في حال شدَّة الخوف وإن قدر على الاستقبال لولا القتال ، ويسقط في الميت أيضاً عند التعذُّر ، وفي الذبح في الصايلة والمتردية ، إذا لم يمكن فيهما الاستقبال)[4] .

وفي المدارك : (هذا الحكم ثابت بإجماع العلماء ، والأخبار به مستفيضة ، وسيجيء تحقيقه في محلِّه - إن شاء الله - )[5] .

أقول : الأفضل تحقيق هذه المسائل في محلِّها ، كما فعل الأعلام ، وبحثها على نحو الاختصار يُوجِب الإخلال بها ، والله العالم .

قوله : (ولا تصحّ الفريضة على الراحلة اختياراً وإن تمكن من استيفاء الشَّرائط والأفعال على الأصحّ ، وكذا لو كان البعير معقولاً)

يقع الكلام في أمرَيْن :

الأمر الأوَّل : في صحّة صلاة الفريضة على الراحلة اختياراً فيما إذا كان ذلك مفوِّتاً لبعض ما يُعتبر فيها ، كالاستقبال والقيام والركوع ، والسجود على ما يصحّ السجود عليه ، والطمأنينة بلحاظ نفس المصلي ، وهذه غير الاستقرار بالنسبة إلى مكان المصلِّي ، إذ الأُولى بمعنى كون المصلِّي بنفسه مستقرِّاً لا مكانه ، وسيأتي الكلام عنها في مبحث أفعال الصَّلاة .

وأمَّا الطمأنينة - بمعنى كون مكان المصلِّي مستقرّاً - فهو ما نتكلم عنه هنا .

الأمر الثاني : نتكلم فيه عن صحّة صلاة الفريضة على الراحلة اختياراً ، بحيث كان متمكناً من الاستقبال والقيام والركوع والسجود والطمأنينة بالمعنى الأول - أي بلحاظ نفس المصلّي - فهل تصحّ صلاته بمجرد كونه على الراحلة - سواء أكانت واقفةً أم سائرةً - مع استجماع باقي الشّرائط .

أمَّا بالنسبة للأمر الأوَّل : فلا إشكال عند الأعلام في بطلانها ، وفي الجواهر : (إجماعاً بقسمَيْه ، بل من المسلمين فضلاً عن المؤمنين ... )[6] ، وفي المدارك : (أمَّا عدم جواز صلاة الفريضة على الراحلة في حال الاختيار فقال في المعتبر : إنَّه مذهب العلماء كافةً ، سواء في ذلك الحاضر والمسافر ... )[7] .

أقول : يدلُّ على ذلك - مضافاً للتسالم بين جميع الأعلام - بعض الأخبار :

منها : صحيحة عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : لا يصلِّي على الدَّابة الفريضة إلَّا مريض يستقبل به القِبلة ، ويجزيه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيءٍ ، ويُومِئ في النافلة إيماءً) [8] .

ومنها : موثَّقة عبد الله بن سنان (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام أيصلِّي الرَّجل شيئاً من المفروض راكباً ؟ فقال : لا ، إلَّا من ضرورةٍ) [9] .

واعترض صاحب الحدائق رحمه الله على توصيف الرِّواية بالموثَّقة (بأنَّ في سندها أحمد بن هلال ، وهو ضعيف غالٍ ) ، وذكر روايةً ثانيةً لعبد الله بن سنان ، وقال : (هي موثَّقة ، رواها الشّيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد بن عن الحسين (ابن الحسن ) ، عن النضر ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : لا تصلِّي شيئاً من المفروض راكباً ، قال النضر في حديثه : إلَّا أن يكون مريضاً) [10] .

أقول : قد ذكرنا في بعض المناسبات أنَّ أحمد بن هلال العبرتائي ثقة يُعمل بروايته .

وعليه ، فالرِّواية الأُولى لعبد الله بن سنان أيضاً موثَّقة .

ثمَّ إنَّ المريض المستثنى في الرِّوايات يُراد منه مطلق العاجز ، فتخصيصه بالذكر إنَّما هو من باب المِثال ، وإلَّا فالمراد : غير المتمكّن .

ثمَّ إنَّ بعض الأعلام استظهر من إطلاق الفريضة في النصّ ، وكلام الأعلام ما يشمل المنذورة ، ونحوها مما وجب بالعارض ، وقال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (لا تصحّ الفريضة على الراحلة اختياراً إجماعاً ، لاختلال الاستقبال ، وإن كانت منذورةً - سواء نذرها راكباً أو مستقراً على الأرض - لأنَّها بالنذر أعطيت حكم الواجب ...) .

وقال العلّامة رحمه الله في التذكرة : (لا تصلِّي المنذورة على الراحلة ، لأنّها فرض عندنا ، ثمَّ نقل عن أبي حنيفة أنَّه لو نذرها وهو راكب يؤدّيها على الراحلة)[11] ، ثمَّ قال : ( وليس بشيء ) ، قال صاحب المدارك رحمه الله : (ويمكن القول بالفرق ، واختصاص الحكم بما وجب بالأصل ، خصوصاً مع وقوع النذر على تلك الكيفية ، عملاً بمقتضى الأصل ، وعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالنذر ، ويؤيِّده : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألتُه عن رجل جَعَل لله عليه أن يصلّي كذا وكذا ، هل يجزيه أن يصلّي ذلك على دابّته - وهو مسافر - ؟ قال : نعم) [12] ، وفي الطريق محمّد بن أحمد العلوي ، ولم يثبت توثيقه ، وسيأتي تمام البحث في ذلك إن شاء الله تعالى ) .

أقول : أمَّا بالنسبة لصحيحة عليّ بن جعفر فقد ذكر صاحب الجواهر رحمه الله (أنّها رويت بطريقين :

أحدهما : ما عرفته - أي : في الطريق محمّد بن أحمد العلوي - .

والثاني : رواه الشَّيخ رحمه الله عن عليّ بن جعفر ، وطريقه إليه صحيح .

وعليه ، فلا إشكال في سند الرّواية ؛ أضف إلى ذلك أنّ المولى الوحيد ذكر أنّ محمَّد بن أحمد العلوي يروي عنه الأجلة ، مثل محمَّد بن علي بن محبوب ، ومحمَّد بن أحمد بن يحيى ، ولم يستثنِ روايته ، وفيه إشعار بحسن حاله ، وصحّح العلّامة حديثه في الرّوايات التي هو في طريقها في المنتهى والمختلف ... ) .

أقول : إنّ توثيق العلّامة رحمه الله وإن لم يُؤخَذ به لكونه من المتأخّرين ، إلّا أنّه قد يُستفاد توثيقه من قول الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله في إكمال الدين في باب النصّ على القائم (عجل الله فرجه الشريف) : حدثنا الشّريف الدين الصّدوق أبو علي محمَّد بن أحمد بن زياد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علهيم السلام عن عليّ بن قتيبة ... ) ، فإنَّ كلمة (الصَّدوق) في كلام الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله دالَّة على التوثيق .

ومهما يكن ، فإنَّ الرّواية صحيحة .


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo