< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/06/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القراءة في الصَّلاة(36)

 

والمدار في العرف على إظهار جوهر الصّوت وعدمه ، كما ذكره المحقّق والشّهيد الثانيان (رحمهم الله) ، بل هو قول كافّة من تأخّر عنهما ، كما عن صاحب الحدائق رحمه الله .

ويؤكد ذلك السِّيرة العمليَّة على إظهار جوهر الصَّوت في الصَّبح ، وأولى العشائين ، وإخفائهما في البواقي ، بحيث لو خالف أحد في ذلك ، بأن صلَّى المغرب مثلاً بلا إظهار جوهر الصَّوت ، أو الظُّهر مع إظهار جوهر الصوت ، لَعُدَّ عند المتشرّعة من المنكرات من غير التفات إلى سماع غيره وعدمه .

وبالجملة ، فلا ينبغي الارتياب في أنَّ مجرد سماع غيره وإن كان بعيدا ًبمقدار معتدّ به ليس منافياً لصوت الإخفات ، إذا لم يظهر معه جوهر الصَّوت .

نعم ، قد يكون تأدية الكلام بشدَّة على وجه يكون المتكلم كالمبحوح من غير أن يظهر جوهر صوته ، فهل هذا ملحق بالجهر أو الإخفات ؟

قال صاحب الجواهر رحمه الله (إنَّ ما يستعمله كثير من المتفقهة من الإخفات بصورة الصّوت المبحوح ، وسمعه منه مَنْ كان أبعد من أُذنيه بمراتب ، وربما كان إماماً ويسمعه أهل الصفّ الثاني لا يخلو من إشكال - إلى أن قال : - بل لو أعطى التأمّل حقّه أمكن دعوى تسمية أهل العرف مثله جهراً ، كما أنّه يسلبون عنه اسم الإخفات ، لا أقلّ من أن يكون ذلك مشكوكاً فيه ، أو واسطة لا يندرج في اسم كلّ منهما ، فلا يجتزئ به ، ولا ينافيه ضدّيتهما لعدم المانع من ارتفاعهما حينئذٍ ... )[1] .

أقول : مقتضى الضَّابطة التي ذكرناها للتمييز بين الجهر والإخفات هو دخوله في مفهوم الإخفات عرفاً .

ثمَّ لو سلّمنا حصول الشَّكّ في ذلك فالمرجع هو أصل البراءة ، لأنَّه شك في سِعة المفهوم وضيقه ، لأنَّ مفهوم الإخفات هل اعتبر فيه خصوصيَّة لا تنطبق على المبحوح ، أم لا ؟

وبما أنَّ مرجع الشَّكّ في الشَّبهة المفهوميَّة إلى الشُّبهة الحكميَّة فتكون أصالة البراءة محكَّمة للعلم بالجامع ، والشَّكّ في الخصوصيَّة الزائدة ، والأصل عدمها ، فيكون مفهوم الإخفات شاملاً للمبحوح .

فما ذكره المحقِّق الهمداني رحمه الله من أنَّه لا يجوز اختياره - أي كلام المبحوح - امتثالاً لشيء من التكليفَيْن ، إذ لا يحصل معه الجزم بالخروج عن عهدة شيء منهما إلَّا مع العجز عن إظهار جوهر الصَّوت في غير محلِّه ، لما عرفت .

كما أنَّ ما ذكره السَّيد أبو القَاسِم الخُوئِيّ رحمه الله غير تامٍّ ، حيث قال : (إنَّا مكلَّفون بالجهر في صلاة الغداة ، والإخفات في صلاة الظُّهر مثلاً ، ونعلم إجمالاً بتقييد أحد التكليفَيْن بعدم وقوع القراءة على صفة المبحوح ، وأصالة عدم التقييد في كلٍّ منهما معارَض بالآخر ، فلا مناص من ترك هذا النوع من القراءة رأساً رعايةً لتنجيز العلم الإجمالي ، واختيار غيره تحصيلاً للقطع بالفراغ عن عهدة التكليف المعلوم)[2] .

وحاصل الإشكال عليه أنَّه لا علم لنا إجمالاً بتقييد أحد التكليفَيْن بعدم وقوع القراءة على صورة المبحوح ؛ ومن أين جاء لنا هذا العلم طالما نحن نشكّ في المفهوم ؟

وبعد رجوع الشّبهة المفهوميَّة إلى الشّبهة الحكميَّة يكون مقتضى الأصل هو البراءة .

ثمَّ إنَّه قد عرفت سابقاً أنَّ أدنى الإخفات ما يسمع نفسه إذا كان سميعاً ، ولم يكن هناك مانع .

ولا يكاد يتحقّق التلفّظ وقطع الحروف من مخارجها بأدنى من سماع نفسه .

ومن هنا قال العلَّامة رحمه الله في المنتهى : (إنَّ ما دونه لا يسمَّى كلاماً ولا قرآناً)[3] ، وقد ذكرنا عبارته سابقاً ، فراجع .

ثمَّ لو فرضنا تحقُّق الكلام والجزم بحصوله من دون سماع نفسه إلَّا أنَّه لا يجتزئ به ، كما ذهب إليه أكثر الأعلام ، إن لم يكن كلاهم .

ويدلّ عليه جملة من الرّوايات :

منها : حسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السَّلام (قال : لا يكتب من القراءة والدّعاء إلّا ما سمع نفسه)[4] .

ومنها : جملة من الرّوايات الورادة في تفسير الآية الشَّريفة كموثَّقة سماعة (قال : سألتُه عن قول الله عزَّوجل {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} ، قال : المخافتة ما دون سمعك ، والجهر أن ترفع صوتك شديداً) [5] ، ومضمرات سماعة مقبولة .

وصحيحة عبد الله بن سنان (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السَّلام : على الإمام أن يُسْمِع مَنْ خلفه وإن كثروا ، فقال : لِيَقرأ قراءةً وسطاً ، يقول الله تبارك وتعالى : {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها})[6] .

ومنها : صحيحة الحلبي (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السَّلام هل يقرأ الرَّجل في صلاته ، وثوبه على فِيه ، قال : لا بأس بذلك إذا أسمع أُذنيه الهمهمة) [7] ، والهمهمة على ما في القاموس : الصَّوت الخفي .

وأمَّا ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السَّلام (قال : سألتُه عن الرَّجل ، يصلح له أن يقرأ في صلاته ، ويحرِّك لسانه بالقراءة في لهواته ، من غير أن يُسْمِع نفسه ؟ قال : لا بأس أن لا يحرِّك لسانه ، يتوهم توهماً) [8] حيث إنَّها ظاهرة جدّاً في عدم اعتبار سماع النفس ، بل يكتفي بمجرد التوهُّم وحديث النفس ، فلا يمكن العمل بها ، إذ لا قائل بها من الأعلام ، بل ينافيها جميع الأدلَّة الدَّالَّة على اعتبار القراءة والذِّكر .

فلا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها ، أو حملها على مَنْ يصلِّي مع قوم لا يقتدى بهم ، كما عن الشَّيخ رحمه الله في التهذيب .

واستدلّ عليه بما رواه عن محمَّد بن أبي حمزة عن من ذكره (قال : قال أبو عبد الله عليه السَّلام : يجزئك من القراءة معهم مثل حديث النفس) [9] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .

نعم ، يشهد له صحيحة عليّ بن يقطين (قال : سألتُ أبا الحسن عليه السَّلام عن الرَّجل يصلِّي خلف مَنْ لا يقتدى بصلاته والإمام يجهر بالقراءة ، قال : اقرأ لنفسك ، وإن لم تسمع نفسك فلا بأس) [10] ، والله العالم بحقائق أحكامه .

 

قوله : (ولا جهر على المرأة ؛ ولو جهرت - بحيث لا يسمع الأجنبي - جاز)[11]

المعروف بين الأعلام أنَّه لا يجب الجهر على النِّساء في موضع الجهر ، وادَّعى جماعة كثيرة من الأعلام الإجماع على عدم الوجوب ، منهم المصنِّف رحمه الله في الذِّكرى ، حيث قال : (ولا جهر على المرأة إجماعاً من الكلّ ، فيكفيها إسماع نفسها ، تحقيقاً أو تقديراً ... )[12] ؛ وفي الجواهر : (للإجماع بقسمَيْه ... ) .

والإنصاف : أنَّ المسألة متسالم عليها بين الأعلام ، فلم يخالف أحد في ذلك من المتقدمين والمتأخِّرين .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo