< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: السُّجود في الصَّلاة(13)

قوله: (ويُكره الإقعاء على الأقوى، وقيل: لا)

المعروف بين الأعلام كراهة الإقعاء بين السّجدتين، وفي المدارك: (فذهب الأكثر إلى كراهته، وادّعى الشَّيخ في الخلاف الإجماع، ونقله المصنِّف رحمه الله في المعتبر عن معاوية بن عمّار، ومحمّد بن مسلم ، من القدماء...).

وعن ابن زهرة في الغنية : (دعوى الإجماع على أنَّه يستحبّ أنْ لا يقعي بين السّجدتين...)؛ وفي الجواهر (وفاقاً للأكثر، كما في كشف اللثام، والمدارك...)، وحُكي عن ظاهر السّيد والشّيخ في بعض كتبه عدم كراهته فيما بين السّجدتين.

أقول: يقع الكلام في أمرين:

الأوَّل: في كيفيَّته.

الثاني: في حكمه.

أمَّا الأمر الأوَّل: فقد وقع الخلاف في كيفيّته بين الفقهاء وأهل اللغة، فالمعروف بين الفقهاء هو أنَّ الإقعاء أن يعتمد بصدور قدميه على الأرض، ويجلس على عقبَيْه.

وفي الجواهر: (فالمراد بالإقعاء المبحوث عنه عندنا، وعند الجمهور، وضع الإليتين على العقبَيْن، معتمداً على صدور القدمين، كما نصّ عليه في المعتبر والمنتهى والتذكرة وكشف الالتباس وحاشية المدارك، ناسبين له إلى الفقهاء؛ بل في ظاهر الحدائق، أو صريحها، كما عن البحار، الإجماع عليه؛ بل هو أيضاً ظاهر إجماع المقاصد وفوائد الشّرائع وغيرهما...).

_____________

(1) الوسائل باب1 من أبواب أفعال الصَّلاة ح9.

(2) الوسائل باب1 من أبواب أفعال الصلاة ح4.

 

وأمَّا عند أهل اللغة، فقال في الصِّحاح (أقعى الكلب: إذا جلس على أسْتِه، مفترشاً رجلَيْه، وناصباً يديه؛ وقد جاء النهي عن الإقعاء في الصَّلاة، وهو أن يضع إليَيْه على عقبَيْه بين السّجدتين، وهذا تفسير الفقهاء؛ وأمَّا أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق الرَّجل إليَيْه بالأرض وينصب ساقيه، ويتسانده إلى ظهره...).

وقال المطرِّزي في الْمُغْرِبِ فِي تَرْتِيبِ الْمُعْرِبِ: (الإقعاء: أن يلصق إليتَيْه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كما يقعى الكلب، وتفسير الفقهاء: أن يضع إليتَيْه على عقبيه بين السّجدتين...).

وفي المصباح المنير للفيومي: (أقعى إقعاءً: ألصق إليتَيْه بالأرض، ونصب ساقيه، ووضع يديه على الأرض، كما يقعى الكلب...)، وهكذا غيرهم من أهل اللغة.

ويظهر من كلمات جماعة من اللغويين اعتبار وضع اليدين على الأرض في صدق الإقعاء، بمعناه المعروف عندهم.

ومهما يكن، فهل الإقعاء مكروه بين السّجدتين بكلام معنيَيْه، أم لا؟ سيأتي التعرُّض له -إن شاء الله تعالى- في الأمر الثاني، هذا تمام الكلام في الأمر الأوَّل.

وأمَّا الأمر الثاني: فقدِ استُدلّ للكراهة بأمرَيْن:

الأوَّل: بالإجماع المنقول، كما عن بعض الأعلام.

وفيه: ما عرفته في أكثر من مناسبة من عدم حجيَّة الإجماع المنقول بخبر الواحد.

الثاني: بجملة من الرّوايات:

منها: موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: لا تقعِ بين السّجدتين إقعاءً)[1] .

ومنها: ما في نسخة الوسائل عن التهذيب بأسانيده عن معاوية بن عمَّار، وابن مسلم ، والحلبي ( قالوا: لا تقعِ في الصَّلاة بين السّجدتين كإقعاء الكلب)[2] .

وبناءً على هذه النسخة فلا تكون روايةً عن المعصوم عليه السلام، بل هذه أقوال لهم.

وحكى صاحب الجواهر رحمه الله عن الشَّيخ في التهذيب أنَّهم قالوا: (قال...)، فعلى هذا تكون روايةً مضمرةً.

ولو ثبتت هذه النسخة لكانت الرِّواية صحيحة، لأنَّ مضمرات ابن مسلم مقبولة، وبما أنَّه لم يُحرَز ذلك فلا تكون روايةً عن المعصوم حينئذٍ.

ولكن حُكي عن الشَّيخ رحمه الله أيضاً في الخلاف أنَّه قال: (روى معاوية بن عمَّار، وابن مسلم، والحلبي، عنه عليه السلام، أنَّه قال: لا تقعِ بين السّجدتين كإقعاء الكلب)[3] .

قد يُقال: إنَّ الرِّواية ضعيفة بالإرسال، لأنَّ الشَّيخ في الخلاف لم يذكر طريقه إلى هؤلاء الثلاثة في التهذيب، كما لا يخفى.

فيقال: يكفي وجود طريق صحيح إلى هؤلاء الثلاثة في التهذيب، كما لا يخفى.

ثمَّ إنَّ النهي في هذه الرّوايات محمول على الكراهة جمعاً بينها وبين الرّوايات المستفيضة النافية للبأس عن الإقعاء.

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: لا بأس بالإقعاء في الصَّلاة فيما بين السّجدتين)[4] .

ومنها: رواية عَمْرو بن جميع (قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا بأس بالإقعاء في الصَّلاة بين السّجدتين وبين الرّكعة الأُولى والثانية، وبين الرّكعة الثالثة والرّابعة، وإذا أجلسك الإمام، في موضع يجب أن تقوم فيه، تتجافى، ولا يجوز الإقعاء في موضع التشهُّدَيْن، إلَّا من علَّة، لأنَّ المقعي ليس بجالس، وإنّما جلس بعضه على بعض؛ والإقعاء: أن يضع الرَّجل إليتَيْه على عقبَيْه في تشهدَيْه؛ فأمَّا الأكل مقعياً فلا بأس به، لأنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أكل مقعياً)[5] ، وهي ضعيفة بعَمْرو بن جميع البتري.

ولعلَّ جميع الفقرات من الرِّواية، ويحتمل انتهاؤها عند قوله: (فتجافى)، ويحتمل انتهاؤها أيضاً عند تفسير الإقعاء.

ومنها: ما رواه ابن إدريس رحمه الله في آخر السّرائر، نقلاً من كتاب حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام (قال: لا بأس بالإقعاء فيما بين السَّجدتين...)[6] ؛ وقد عبَّر عنها جماعة من الأعلام بالصَّحيحة.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّها ضعيفة بالإرسال، لأنَّ ابن إدريس رحمه الله لم يذكر طريقه إلى كتاب حريز.

وكونه لا يعمل إلَّا بالقطعيات لا يفيد، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة.

وبالجملة، فمقتضى الجمع بين الرّوايات هو حمل النهي على الكراهة.

_____________

 

نعم، قد يشكل ذلك: بما في رواية عمرو بن جميع -بناءً على صحتها- من التفصيل بين الجلوس بين السَّجدتين، وبين الجلوس للتشهُّد؛ مع أنَّ الثاني أيضاً مكروه، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-؛ والتفصيل قاطع للشَّركة.

ويمكن الجواب عن ذلك: بحمل التفصيل على اختلاف مرتبة الكراهة، وكونها فيما بين السّجدتين أخفّ.

هذا، وقد جمع بعض الأعلام -ومنهم صاحب الحدائق رحمه الله- بين الرّوايات، بحمل روايات النهي عن الإقعاء بين السّجدتين على الإقعاء المنقول عن أهل اللغة، وهو الجلوس على الإليَيْن، ناصباً فخذَيْه، واضعاً يديه على الأرض، مثل إقعاء الكلب.

وحمل روايات جواز الإقعاء بين السّجدتين على الإقعاء بالمعنى الذي عند الفقهاء.

وفيه: أنَّ هذا الجمع بعيد، لأنَّ روايات النهي جاءت ردّاً على ما يفعله أبناء العامَّة، والذي هو مستحبّ عندهم، وهو الإقعاء بالمعنى المعروف عند الفقهاء، وهو الذي يستعملونه الآن.

وعليه، فهو المناسب لبيان حكمه بالنهي عنه، وإلَّا فالإقعاء بالمعنى اللغوي قلَّ ما يفعله أحد من الرّجال في الصَّلاة.

على أنَّه هو جلوس القُرْفُصَاءَ، التي هي أحد جلسات النّبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأفضل الأحوال في النافلة، وغيرها ممَّا يصلّي من جلوس، وأفضل جلوس المرأة، كما سيأتي -إن شاء الله-.

والخلاصة: أنَّ الجمع الأوَّل -وهو حمل روايات النهي على الكراهة- هو المتعيِّن.

ثمَّ إنَّه ذهب جمع من الأعلام إلى كراهة الإقعاء بين السجدتين بكلا معنييه، أي ما عند الفقهاء، وعند أهل اللغة.

وقدِ استُدلّ لذلك: بموثَّقة أبي بصير المتقدِّمة، فإنّ قضية إطلاقها كراهته بكِلا قسمَيْه، لأنَّ النهي عن الطّبيعة يقتضي ذلك.

واقتصار أغلب الأعلام على أحد معنيَيْه، وهو المتعارف عند الفقهاء، إنَّما هو لأجل كونه هو المستعمل عند أبناء العامّة، وغيرهم من المستعجلين، بخلاف المعنى الثاني، وهو المعنى اللغوي الذي هو إقعاء الكلب، فلم يستعمله أحد من المصلّين إلَّا قليلاً؛ فلذا ناسب التنصيص على الأوَّل دونه، وإلَّا فالنهي يشملهما.

ولكن الإنصاف: أنَّ الإقعاء في موثَّقة أبي بصير لا يشملهما معاً، وإلَّا كان من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وذلك لتباين المعنيَيْن، وعدم الجامع بينهما، ولفظ الإقعاء حينئذٍ إمَّا من المشترك لفظاً، أو من الحقيقة والمجاز.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo