< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

32/11/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 الأصول/ الاستصحاب/ الأحكام الوضعية / التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل
 لا زال الكلام في الاشكالات على استصحاب الحكم الكلي، وقلنا بالأمس أن من جملة الأمور الوارد في المقام أنهم قالوا أن عدم استصحاب الجعل يتعارض مع استصحاب المجعول. وأيضا استصحاب عدم جعل الحلية وعدم جعل الحرمة واستصحاب المجعول أي الحرمة بالنسبة لوطء الزوجة.
 قالوا: أولا لسنا بحاجة إلى استصحاب عدم جعل الحلية باعتبار أن الأمور في الأصل على الحلال قبل الشريعة الإسلامية فلا تحتاج الحلية إلى جعل.
 لكن مع هذا وبناء على ذلك قلنا أنه في هذه الصورة تجري ثلاثة استصحابات في آن واحد. استصحاب عدم جعل الحرمة، واستصحاب عدم جعل الحلية، واستصحاب المجعول الحرمة -، فحينئذ تكون الاستصحابات الثلاثة في رتبة واحدة، لا أن استصحاب عدم جعل الحرمة يتعارض مع استصحاب عدم جعل الحلية وبعد التعارض والتساقط نرجع إلى استصحاب المجعول أي الحرمة، كلهم في عرض واحد يتعارض الجميع -.
 الأصل السببي
 قالوا: إن استصحاب عدم جعل الحرمة أصل سببي واستصحاب الحرمة أصل مسببي، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي، فإذا استصحبنا عدم جعل الحرمة لا يبقى عندنا شك في الحرمة.
 فمثلا الشك في حرمة وطء الزوجة بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال إنما منشأه الشك في كون الحرمة جعلت في حال استمرار الدم فقط أم أنها جعلت لها ولما بعدها- أي بعد الانقطاع وقبل الاغتسال -؟
 فإذا استصحاب الحرمة وعدمه مسبب عن استصحاب جعل الحرمة وعدمه، فإذا استصحبنا عدم جعل الحرمة ارتفع الشك باستصحاب الحرمة. وبعبارة أخرى الأصل السببي رافع للأصل المسببي فإذا قلنا أن المولى لم يجعل الحرمة لم يبقى عندي شك حتى أجري الاستصحاب فيكون استصحاب عدم جعل الحرمة حاكم على استصحاب الحرمة.
 ويرد عليه:
  صحيح أن الأصل السببي يكون حاكما على الأصل المسببي، لكن إنما يكون كذلك في ما إذا كان الأصل المسببي أثرا شرعيا للأصل السببي، فحيئذ يرتفع الأصل المسببي بجريان الأصل السببي.
 لكن هذا الكلام لا يجري في المقام، لأن عدم حرمة وطء الحائض ليست أثرا شرعيا لعدم جعل الحرمة وإنما أثر تكويني. بل إن عدم حرمة وطء الحائض هو عين عدم جعل الحرمة وليس شيئا آخر، ولا يوجد فرق بينهما في الخارج.
 فلا يمكن القول في المقام إن عدم حرمة وطء الحائض أثرا شرعي لاستصحاب عدم جعل الحرمة حتى يكون جريان الأخير رافعا لاستصحاب المجعول، وبالتالي لا يمكن القول أيضا إن الأصل السببي هنا حاكم على الأصل المسببي.
 الخلاصة إلى هنا: الإشكال الثاني المبني على أن استصحاب عدم جعل الحرمة معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة في غير محله لأن الإباحة لا تحتاج في الأصل إلى جعل، ثم تنزلنا وناقشنا كلامهم وعرفت ما فيه.
 الإشكال الثالث:
 ما أورده الشيخ النائيني من أنه يشترط في جريان الأصل أن يكون له أثرا شرعيا وليس لاستصحاب عدم جعل في المقام أثر شرعي.
 أما أنه ليس له أثر شرعي فلأن الجعل وعدم الجعل إنما يكون في مرحلة الإنشاء، والآثار الشرعية لا تترتب على مرحلة الجعل بل تترتب على الأحكام الفعلية، وليس الآثار الشرعية كمقدمة الواجب - بل الآثار العقلية لا تترتب إلا على الأحكام الفعلية.
 مثلا متى تترتب الآثار الفعلية للحج من وجوب الامتثال وحرمة الترك و...؟ إنما تترتب عندما يتحقق الموضوع في الخارج من خلال الاستطاعة...،كذلك الأمر في الصلاة والصيام والخمس و...
 إذا في المقام فلنفرض أننا استصحبنا عدم الجعل، يقول الشيخ النائيني إن هذا الاستصحاب هو استصحاب لعدم إنشاء الحرمة وليس لهذا الاستصحاب أثر شرعي.
 وعليه عند الشك في حرمة وطء الزوجة بعد الانقطاع وقبل الغسل، نستصحب حرمة الوطء الحكم المجعول وليس له معارض.
 ويرد عليه:
 أولا: أنت تقر الشيخ النائيني أن إنشاء الأحكام يكون غالبا على نحو القضايا الحقيقية، مثلا : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا "، فإذا وجد مستطيع في الخارج و...، يجب عليه الحج.
 فنسأل هنا الشيخ النائيني: ماذا تقول في الوجوب المشروط؟ فالوجوب المشروط ليس فعليا وإنما يتوقف على شرائطه، فالزوال مثلا شرط وجوب صلاة الظهر، والاستطاعة شرط وجوب الحج، وعدم السفر شرط وجوب الصوم، وهكذا ، فهل الاستصحاب يجري في الوجوب المشروط أو لا يجري؟ هو يجري. فإذا كان يجري فلماذا يجري هنا ولا يجري هناك مع أن كلا الحكميين غير فعليين.
 ولمزيد من التوضيح في المقام نقول: الأحكام الشرعية ليست من سنخ الجواهر والأعراض في الخارج التي هي أمور حقيقية تكوينية، كما أنها ليست أمور انتزاعية، وإنما هي أمور اعتبارية بيد من بيده الاعتبار، المولى يعتبر الوجوب، الاستحباب،الحرمة،ونحوهم فالاعتبار من المولى أمر حقيقي نعم، أما المعتبر فهو أمر اعتباري فإذا اعتبر المولى الوجوب مثلا فالوجوب يكون اعتباريا.
 والاعتبار على قسمين:

تارة يكون الاعتبار حالي والمعتبر كذلك، وتارة يكون الاعتبار حالي والمعتبر استقبالي.
 أما الأول فكالوجوب المطلق الذي لم يعلق على شيء ولم يشترط فيه شيء.
 أما الثاني فسأذكر مثالا على الحكم الوضعي ثم آتي إلى الحكم التكليفي:
 عندما توصي بوصية تملك بها زيدا أو عمرا شيئا من أموالك بعد وفاتك، في هذه الحالة حصل الاعتبار والاعتبار حالي، لكن المعتبر استقبالي وهو معلق على الموت فلا يحصل التملك إلا بعد وفاة الموصي.
 وكثير من الأحكام الشرعية هو من هذا القبيل: فيقول المولى مثلا اعتبرت الحج على البالغ العاقل المستطيع....، فيكون الاعتبار حالي لكن المعتبر استقبالي، ووجوب الواجب المشروط بشكل عام يكون الاعتبار فيه حاليا والمعتبر استقباليا، إذا زالت الشمس فصلي... .
 إذا التفكيك حاصل بين الاعتبار والمعتبر في الأمور الاعتبارية.
 مر معنا في باب المعاملات البحث حول كون الإجازة ناقلة أو كاشفة حيث اخترنا هناك حالة برزخية بين الكشف والنقل، وقلنا أنها لا هي كاشفة مئة بالمئة ولا هي ناقلة مئة بالمئة.
 فلو افترضنا أن زيدا باع ملكي قبل شهر مثلا دون إجازة مني -، ثم أجزت البيع الآن، فعندما أجزت البيع أجزته منذ ذلك الوقت، فالاعتبار والتملك حصل ، أما المعتبر والمملوكية حصلت منذ شهر ولذلك يملك النماء الحاصل منذ ذلك الوقت إلى الآن. و هذه الإجازة يعبر عنها بأنها نقل للملكية وكشف للمملوكية، فيكون الاعتبار قد حصل الآن بينما كان المعتبر متقدما ، ولذلك قلنا أن هذه الآثار التي كانت لفلان قبل الإجازة هي نفسها بعد الإجازة. ولا يوجد محذور عقلي في هذا التفكيك بين الاعتبار والمعتبر.
 إذا الشاهد أنه يمكن التفكيك بين الاعتبار والمعتبر، فيمكن للمولى أن يوجب الحكم الشرعي الآن لكن يعلقه ويجعله متوقفا على شرائط فيكون الوجوب مشروطا والاعتبار فعلي والمعتبر استقبالي.
 أصلا في مواضيع من هذا القبيل لا يمكن أن يكون الحكم فيها فعليا وموضوعه غير فعلي، وهذا هو نفسه إشكالنا على مسألة الشرط المتأخر والذي دعانا إلى إنكاره. قلنا هناك أنه كيف يمكن تصوير الحكم فعليا والموضوع استقباليا، والفرض أن الموضوع بالنسبة للحكم كالعلة بالنسبة للمعلول؟
 فهل يمكن وجود معلول بدون علة؟
 من هنا كان إنكارنا للشرط المتأخر وبالغنا في الإنكار.
 وعليه نسأل الشيخ النائيني: ماذا تقول في مثل هذه الأمور؟ وهل تجري الأصول في هذه الأحكام مع عدم تحقق موضوعاتها أو لا تجري؟
 وهو يجري الأصول فيها. فلماذا أجريتها هناك شيخنا ولا تجريها هنا؟ هذه كتلك.
 لماذا نجري الاستصحاب في الجعل ولا نجري في عدمه؟ فإننا عندما نشك في بقاء الجعل كما لو شككنا في بقاء حكم الحد أو القصاص أو الديات في الإسلام فإننا نستصحب بقاء الجعل. فما الفرق بين الجعل وعدم الجعل.
 وبناء عليه إنصافا لم يكتب التوفيق لإشكال الشيخ النائيني في المقام! فإذا لا مانع من استصحاب عدم جعل الحرمة هنا لما بعد الانقطاع وقبل الاغتسال.
 وعليه فاستصحاب عدم الجعل يجري هنا ويتعارض مع استصحاب المجعول، يتعارضان، يتساقطان، فنرجع إلى أصل آخر الإباحة ، الحلية...، بحسب المورد.
 بقي عندنا أمر في هذه المسألة مسألة استصحاب الحكم الكلي وهو:
 أن التعارض بين استصحاب الحكم المجعول واستصحاب عدم الجعل إنما يكون في الأحكام الإلزامية دون سواها ، فلا يقال عند الشك في بقاء أمر ما على الإباحة أن استصحاب البقاء على الإباحة يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة، وذلك لأن الأشياء في الأصل على الإباحة، وهي أي الإباحة لا تحتاج إلى جعل، وإنما يُحتاج إلى الجعل في الإلزاميات. ( وهذا حاله حال ما لو شككنا في بقاء الماء مثلا على الطهارة، أو شككنا في سريان النجاسة من موضع إلى موضع آخر وبالتالي شككنا في بقاء الموضع الثاني على الطهارة، فهنا لا يمكن القول أن استصحاب جعل الطهارة معارض باستصحاب عدم جعل الطهارة! والسبب في ذلك أن الأصل في الأشياء هو الطهارة ولا نحتاج للحكم على طهارة شيء إلى جعل خاص.)
 ويمكننا فهم هذا المعنى من الحديث الشريف: " اسكتوا عما سكت الله عنه "، أو من حديث آخر: " كلما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ".
 فالذي يفهم من هذا الحديث هو وضع الإلزام عن العباد وإلا فلا معنى لوضع الإباحة عنهم ، إذا الذي يحتاج إلى الجعل هو الإلزاميات وليس الإباحة.
 وعليه فليس في الإباحة جعل أصلا حتى تصل النوبة إلى الحديث عن استصحاب الجعل والمعارضة و... .
 إذا عندما نقول أن استصحاب الحكم الكلي معارض باستصحاب عدم الجعل فالمراد من الحكم هنا الأحكام الإلزامية.
 
 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo