< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/11/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الثانية\ الوضع \ حقيقة الوضع
 مسلك اعتبار الملازمة:
 ذهب بعض الأعلام الأجلاء إلى أن الوضع عبارة عن اعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى.
 ويرد عليه
  إذ السؤال الذي يطرح نفسه: هل الملازمة المدعاة في الذهن أم في الخارج؟
 فإن قيل أنها في الخارج: أي في عالم التكوين خارج الذهن، فلا نفع من هذه الملازمة؛ لأن المخاطَب لما اعتُبرت له الملازمة، لا يخلو أمره من حالين:
 إما أن يكون عالما بالوضع أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فلا ينفعه اعتبار الملازمة خارجا؛ لأن ذهنه ينتقل من اللفظ إلى المعنى بفضل علمه بالوضع بلا حاجة إلى اعتبار الملازمة.
 وإما أن يكون المخاطَب جاهلا بالوضع، فلا ينفعه اعتبار الملازمة أيضا؛ لأن ذهنه حينها لن ينتقل إلى شيء.
 وإن قيل أن اعتبار الملازمة في الذهن: أي في أذهان الناس، فنسأل: هل اعتبرت الملازمة في ذهن العالم بالوضع، أم ذهن الجاهل به؟
 فإن قيل في ذهن العالم، فالكلام هو الكلام؛ إذ لا فائدة من اعتبار الملازمة؛ لأن ذهنه العالم بالوضع يكفيه للانتقال من اللفظ إلى المعنى، بل اعتبار الملازمة للعالم بالوضع يكون من باب تحصيل الحاصل، بل من أردئه؛ لأن اعتبار الملازمة فيه يكون من قبيل إثبات بالتعبد ما هو ثابت بالوجدان، وهذا غير معقول.
 وإن قيل في ذهن الجاهل بالوضع، فلا ينتفع من اعتبار الملازمة؛ لأن ذهنه الجاهل بالوضع لن ينتقل إلى شيء بسماعه اللفظ.
 فالإنصاف فيما يخص هذا المسلك القائل بأن الوضع عبارة عن اعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى لا معنى محصلا له من جهة، ومن جهة أخرى الملازمة سواء أكانت في الذهن أم في الخارج، فهي أمر تكويني حقيقي لا يخضع للاعتبار، وإنما يخضع للعلل الحقيقية؛ فاعتبار وجود النار خارجا مثلا، لا يلزم منه وجودها في الخارج حقيقية.
 مسلك الاتحاد والهوهوية:
 ذهب المحقق الإيراواني النخشواني وجماعة إلى مسلك الاتحاد والهوهوية؛ حيث قالوا: (الوضع عبارة عن اعتبار اللفظ متحدا مع المعنى)؛ أي فانيا فيه بادعاء الهوهوية بينهما، وأن وجود اللفظ وجود تنزيلي للمعنى ادعاءً لا حقيقة، وباب الادعاء باب واسع، وهو سهل المؤونة. وتوضيحه:
 يذكر في علم المعاني ما يعرف بالحقيقة الادعائية للسكاكي، والتي منشؤها المبالغة في التشبيه؛ كما لو شبه زيدا بالأسد، ثم رح يبالغ في هذا التشبيه حتى ادعى الاتحاد بينهما، فصار للأسد فردان، فرد حقيقي، وهو الحيوان المفترس المعروف، وفرد ادعائي، وهو زيد الشجاع. ونظيره في الشرع الحديث النبوي: ( الطواف بالبيت صلاة )( [1] حيث نزل الطواف في الكعبة المشرَّفة منزلة الصلاة من اشتراط الطهارة من الخبث والحدثين، وأن لا يكون اللباس من الحرير ...، وهذا الحديث وإن كان ضعيفا كما بينا مفصلا في كتاب الحج، إلا أنه يوضح لنا حقيقة الادعاء والتنزيل.
 وكذا موثقة عمار بن موسى، قال: ( سألت أبا عبد الله عن الفقاع، فقال: هو خمر )( [2] حيث نزل الفقاع منزلة الخمر من جهة حرمة شربه ونجاسته.
 وكذلك في المقام؛ فإن الواضع يدّعي أن لفظ الإنسان مثلا هو عين الإنسان خارجا؛ أي اللفظ عبارة عن وجود للمعنى ادعاء وتنزيلا؛ لذا لا ينظر المتكلم في حال الاستعمال إلى اللفظ، بل يكون غافلا عنه، فيلحظ المعنى استقلالا، ويلحظ اللفظ آلة فانيا في المعنى، ومن هنا لم يصح استعمال اللفظ في معنيين.
 ولشدة الاتحاد بين اللفظ والمعنى نجد آثار كل منهما تسري إلى الآخر؛ فإن كان المعنى قبيحا استقبح الناس لفظه، رغم أن اللفظ في نفسه مركَّبُ حروفٍ لا قبح فيها ولا حُسن.
 وكذا لو كان في اللفظ تعقيد، سرى هذا التعقيد إلى لفظه الدال عليه؛ "كقول الفرزدق في خال هشام بن عبد الملك، وهو إبراهيم بن هشام بن اسماعيل المخزومي: وما مثله في الناس إلا مملَّكًا أبو أمه حتى أبوه يقاربه أي ليس مثله في الناس (حي يقاربه)؛ أي أحد يشبهه في الفضائل (إلا مملَّك)؛ أي رجل أُعطي الملك والمال
 يعنى هشاما (أبو أمه)؛ أي أبو أم ذلك الملك (أبوه)؛ أي أبو إبراهيم الممدوح؛ أي لا يماثله أحد إلا ابن أخته، وهو هشام"( [3] ).
 وسراية الآثار هذه مما يؤيد الهوهوية بين اللفظ والمعنى.
 والإنصاف: إن الإلتزام بالاتحاد والهوهوية بين اللفظ والمعنى، وأن وجود اللفظ وجود تنزيلي للمعنى، وإن كان متينا بالنسبة للوضع التعييني، إلا أنه لا يتم بالنسبة للوضع التعيني الحاصل من كثرة الاستعمال؛ فلا مجال للقول بأنه من كثرة الاستعمال يتحد اللفظ والمعنى خارجا، وأن اللفظ هو المعنى في الخارج؛ إذ لا يُعقل الاتحاد الحقيقي بينهما خارجا، وما يمكن ادعاؤه هو الاتحاد الاعتباري والتنزيلي.
 ولما كان الوضع ينقسم إلى قسمين: تعييني وتعيني، فلا بد أن يكون المقسم جامعا بينهما؛ بحيث ينطبق على كل منهما، بينما ما ذكر من الاتحاد والهوهوية لا ينطبق إلا على التعييني فقط. من هنا اقتضى الإنصاف في حقيقة الوضع أنه عبارة عن الربط الخاص بين اللفظ والمعنى، وهذا الربط يحصل تارة بالجعل، وأخرى بكثرة الاستعمال، وهذا الربط جامعا بينهما، ومعنى لهما بلا إشكال، والله العالم.
 عَودًا على تعريف صاحب الكفاية للوضع:
 نرجع إلى قول صاحب الكفاية؛ حيث قال: "الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى ..."، حيث عبّر عن الوضع بالاختصاص، وفيه: إن الوضع من مقولة الفعل، والاختصاص (افتعال)؛ أي من مقولة الانفعال؛ لذا المفروض أن يقول: (الوضع تخصيص للفظ بالمعنى).
 أما قوله: "... وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعيِّيني والتعيُّني، كما لا يخفى"،
 ففيه: إن من الغريب أن يصحِّح صاحب الكفاية هذا التقسيم، والحال أنه أنكر الوضع التعيّني في بعض مباحثه، وأنه لا بد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في إحدى تلك الاستعمالات، وإلا فبدونه لا يكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها، ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ. ومن هنا أشكَل على تعريف المشهور للوضع بالوضع التعيّني تارة، وبالتعييني أخرى، وذكر أنه لا مجال لهذا التقسيم، بل هو مخصوص بالتعييني فقط؛ أي ما كان بالجعل والاعتبار، غايته الأعم من الاعتبار القولي أو الفعلي، ووافقه على ذلك تلميذه المحقق الإيراواني
 وجوابه: إن الربط بين اللفظ والمعنى ليس منحصرا في التعييني، كما تقدّم؛ فإننا ندّعي نشوء العلقة بين اللفظ والمعنى بسبب كثرة الاستعمال، وإن لم يكن ثمة قصد، كما أوضحناه سابقا.


[1] () السنن الكبرى للبيهقي، باب الشرب في الطواف، ج5، ص85.
[2] () وسائل الشيعة، باب 26 من أبواب الأشربة المحرمة، ج25، ص360، ح2.
[3] () مختصر المعاني، ص18.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo