< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/01/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمة \ الأمر التاسع \ الحقيقة الشرعية \
 الأمر التاسع: الحقيقة الشرعية
 قال صاحب الكفاية: ( التاسع: إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لا بد - حينئذ - من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز، فافهم )
 يتناول صاحب الكفاية في الأمر التاسع من مقدمات علم الأصول الحقيقةَ الشرعية، وهي عبارة عن وضع الشارع، وهو النبي ص، الألفاظ المستعملة في العبادات والمعاملات لمعان جديدة غير المعاني اللغوية؛ كأن يضع لفظ (الصلاة) الذي يعني الدعاء في اللغة، للعبادة المخصوصة في الشريعة، وكذا بالنسبة لبقية الألفاظ الأخرى؛ كالطهارة، والصوم، والزكاة، والحج ... فهل هذه الحقيقة ثابتة أم لا؟ هذا ما سنبحثه في هذا الأمر التاسع.
 بداية، وقبل الخوض في ثبوت هذه الحقيقة وعدم ثبوتها، نذكر مقدمات ثلاثة:
 أولا: لا خلاف في ثبوت الحقيقة المتشرعية؛ أي بعد زمن النبي ص، فإن الألفاظ الشرعية قد نقلت من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية في ذاك الزمن بلا خلاف، وإنما الكلام في الحقيقة الشرعية؛ أي الماهية المخترعة عند الشارع؛ كالصلاة والصوم والحج ونحوها، وأما أجزاؤها؛ كالركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها، فلا مجال للبحث فيها؛ إذ لم يستعملها الشارع إلا في معانيها اللغوية أو العرفية، فلا يوجب مجرد اعتبار الشارع فيها بعض القيود عند الأمر بها؛ كالإتيان بالذكر الخاص والاطمئنان عند الإتيان به ونحو ذلك، جريان النزاع فيها. وسيتضح لك، إن شاء الله تعالى، خروج جميع المعاملات عن حيز البحث؛ كالبيع والصلح والإجارة والنكاح ونحوها؛ لأن حقائقها حقائق عرفية أمضاها الشارع. نعم اعتبر فيها بعض القيود الوجودية أو العدمية، وهذا لا يخرجها عن كونها حقائق عرفية.
 وقد اتضح بذلك أن المراد بالشرع النبي ص، والمراد من المتشرعة المتدينون بالشريعة والأئمة ع، رغم ثبوت ولايتهم التشريعية، على الخلاف بين الأعلام، إلا أنه لا يشملهم لفظ الشارع حينما يقال: هذه الألفاظ مثلا استعملها الشارع في تلك المعاني حتى صارت حقيقة فيها. ولعل السر في عدم إطلاق لفظ الشارع على الأئمة ع، هو أنه لم يؤثر عنهم إعمال هذه الولاية إلا نادرا؛ كما في حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عنهما جميعا، قالا: ( وضع أمير المؤمنين على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين دينارا ) [1] حيث استفيد من هذه الحسنة أن أمير المؤمنين ع شرّع هذا الحكم، وقد أمضاه الشارع المقدس. وعلى العموم، فإن الكلام عن الحقيقة الشرعية يخص زمن النبي ص .
 ثانيا: اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية على أقوال: فمنهم أثبتها مطلقا، ومنهم نفاها مطلقا، ومنهم من أثبتها في العبادات دون المعاملات، ومنهم من أثبتها في خصوص ألفاظ العبادات التي هي كثيرة الاستعمال؛ كالصلاة ونحوها.
 ثالثا: قلنا سابقا أن الوضع على قسمين:
 - وضع تعييني: وهو بيد الواضع؛ حيث يضع لفظا مقابل معنى.
 - وضع تعيني: وهو ناشئ من كثرة استعمال لفظ في معنى معين.
 ثم إن صاحب الكفاية قسم الوضع التعييني على قسمين:
 القسم الأول: يستند فيه التعيين إلى تصريح الواضع بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى. وهذا القسم وإن كان ممكنا في نفسه في هذا المقام، ولكنه لم يثبت، ولو بخبر ضعيف، أن النبي ص صرح بوضعه لفظا معينا لمعنى معين؛ كأن يقول: وضعت لفظ (الحج) للعبادة المخصوصة.
 القسم الثاني: يستند فيه التعيين إلى نفس استعمال اللفظ في معنى معين؛ كما إذا وُلِد لي ولد، وقبل أن أصرح بأني وضعت له اسما، قلت لأحدهم: (ناولني ولدي محمدا)؛ حيث يحصل الوضع بنفس استعمال اسم محمد في الولد؛ أي إن العلقة الوضعية بين لفظ (محمد) والولد نشأت من نفس الاستعمال.
 وهنا نسأل: هل هذا القسم ممكن؟ وإن كان ممكنا، فهل هو واقع؟
 يجيب صاحب الكفاية: بأنه ممكن وواقع، بل مدعي القطع بوقوعه غير مجازف. أما الميرزا النائيني، فقد أشكل بإشكال تبعه عليه جماعة من الأعلام، وحاصله:
 قلنا سابقا: إن الوضع فعل اختياري نفساني للإنسان، وهو عملية حكم تستلزم لحاظ طرفيه من اللفظ المحكوم عليه، والمعنى المحكوم به، وإن لحاظ اللفظ في الوضع لحاظ استقلالي، بينما لحاظه في الاستعمال لحاظ آلي تبعي للمعنى. وعليه، فإن دعوى حصول الوضع بالاستعمال نفسه، يلزم منه اجتماع اللحاظ الاستقلالي والاستعمالي في آن واحد، وهو محال. ومن هنا ذهب الميرزا إلى استحالة هذا القسم، وبالتالي عدم وقوعه.
 وفيه: إن كان مراد صاحب الكفاية أن الوضع يحصل بالاستعمال بلا أن يكون مسبوقا بوضع، فالإشكال وارد. وإن كان مراده أن الاستعمال مجرد مبرز للوضع، وأن الوضع بالتالي متقدم على الاستعمال باعتباره فعل نفساني قائم في صقع النفس، وما الاستعمال إلا أحد مبرزَي هذا الفعل، في قبال القسم الأول الذي برز فيه من خلال تصريح الواضع، فهنا لا يرد الإشكال، لبقاء اللحاظ الاستقلالي متقدما بتقدم الوضع المتقدم على الاستعمال، وبقاء اللحاظ الآلي متأخرا في الاستعمال، فلا يلزم حينئذ اجتماع اللحاظين في آن واحد.
 ثم إن صاحب الكفاية، وبعد إثباته وقوع القسم الثاني من أقسام الوضع التعييني؛ أي الوضع بالاستعمال، ذهب إلى أن هذا الاستعمال لا هو حقيقي ولا مجازي؛ أما أنه ليس حقيقيا؛ فباعتبار أن الاستعمال الحقيقي استعمال للفظ فيما وضع له في رتبة سابقة على الاستعمال، والفرض أنه لا وضع قبل الاستعمال. وأما أنه ليس مجازيا؛ فباعتبار أن الاستعمال المجازي استعمال للفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، والفرض أنه لا معنى حقيقي قبل الاستعمال لتكون ثمة علاقة بينه وبين المجازي، فيكون من قبيل استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه؛ أي لا هو استعمال حقيقي ولا مجازي.
 فمثلا لفظ (الصلاة) لا هو مستعمل في المعنى الحقيقي ولا في المعنى المجازي. أما أنه ليس حقيقيا؛ فلأنه غير مسبوق بوضع، وأما أنه ليس مجازيا؛ فلأنه لا معنى حقيقي قبل الاستعمال لتكون ثمة علاقة بينه وبين المعنى المجازي، وعلى فرض وجود المعنى الحقيقي، فلا علاقة بينه وبين المعنى المجازي. وأما علاقة الجزء والكل بين الصلاة اللغوية التي تعني (الدعاء) والصلاة العبادية المشتملة على الدعاء، فهي غير صالحة للاستعمال المجازي بهذه العلاقة؛ ذلك أنه يشترط في هذه العلاقة انتفاء الكل بانتفاء جزئه، والحال أن الصلاة العبادية لا تنتفي بانتفاء الدعاء.
 والإنصاف: إن الاستعمال هنا حقيقي لما عرفت من تقدم الوضع على الاستعمال، فيكون اللفظ مستعملا فيما وضع له. وأما إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه، فقد عرفت أنه ليس من باب الاستعمال أصلا، بل هو من باب إحضار الفرد والحكم على نوعه أو صنفه من خلال إلقائهما في الذهن، وكذا الحال في إطلاق اللفظ وإرادة مثله، فليس من باب الاستعمال، بل هو من باب الإحضار أيضا، وقد تقدم تفصيل ذلك في الأمر الرابع، فراجع.


[1] - وسائل الشيعة، باب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة وما تستحب، ج9، ص77، ح1.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo