< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/11/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الدليل الرابع: (أصالة احترازية القيود)
قال صاحب الكفاية: "ولا ينافي ذلك ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا؛ لأن الاحترازية لا توجب إلا تضييق دائرة موضوع الحكم في القضية؛ مثل ما إذا كان بهذا الضيق بلفظ واحد، فلا فرق أن يقال: (جئني بإنسان) أو (بحيوان ناطق)".[1]
حاصل هذا الدليل: أن نفي مفهوم الوصف يتنافى مع ما هو ثابت، وهو أن الأصل في القيود الاحتراز لا التوضيح. ومعنى الاحتراز أن يكون الغرض من ذكر القيد تخصيص الحكم بالموضوع حال كونه مقيدا بهذا القيد، وبالتالي نفيه عما عدا المقيد به، وهذا دليل على أن للوصف مفهوما.
والجواب: قد تقدم في بداية مبحث مفهوم الشرط أن المراد من المفهوم هو نفي كلي الحكم عند انتفاء الشرط، لا مجرد انتفاء شخصه الذي يشكل القدر المتفي المتيقن؛ فمثلا في: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإن مقتضى مفهوم الشرط انتفاء كلي إكرام زيد عند انتفاء مجيئه؛ أي انتفاء كل إكرام لا خصوص المعلق على المجيء. وكذلك الحال بالنسبة إلى مفهوم الوصف؛ فإن مقتضى احترازية القيود في: (أكرم العالم العادل)، ليس نفي الحكم وسنخه عن العالم غير العادل، بل شحص هذا الحكم منصب على خصوص موضوعه المقيد، وهو العالم العادل، ولا يشمل العالم غير العادل، أما بقية أفراد وجوب الإكرام فمسكوت عنها. وبالتالي فإن هذا المقدار المنتفي بأصالة احترازية القيود؛ أي انتفاء شخص الحكم عن الموضوع غير المقيد به،غير كاف لإثبات المفهوم، فلا منافاة بين القول بأصالة الاحتراز في القيود، وبين القول بنفي مفهوم الوصف. وعليه، فهذا الدليل لم يكتب له التوفيق أيضا.
نعم، ذكر البعض أن أصالة احترازية القيود؛ تكون بمعنى نفي كلي الحكم عن غير المقيد في مورد واحد، وهو مورد التعريف بالحدود؛ لأن الغاية منه طرد الأغيار.
وفيه: إن هذا الكلام وإن كان صحيحا، ولكنك عرفت أنه لا سبيل إلى معرفة حقائق الأمور إلا للمبدأ الأعلى، وهو الله، أو أصحاب المبادئ العالية؛ كالرسل والأئمة، وقد يحصل أيضا لبعض الأشخاص القليلين من أصحاب الرياضات النفسية، والله العالم. قال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا[2]، وبالتالي فإن التعاريف التي بين أيديها غالبها إن لم تكن كلها تعاريف لفظية توضيحية.

الدليل الخامس: (حمل المطلق على المقيد)
قال صاحب الكفاية: "كما أنه لا يلزم في حمل المطلق على المقيد، فيما وجد شرائطه إلا ذلك، من دون حاجة فيه إلى دلالته على المفهوم".
حاصل هذا الدليل: أنه لو ورد المطلق مثل: (أعتق رقبة)، ثم ورد المقيَّد مثل: (أعتق رقبة مؤمنة)،
إن حمل المطلق على المقيد لم يوجبه مفهوم الوصف، وإنما أوجبته القرينة الخارجية الدالة على أن المطلوب عتق واحد. هذه القرينة الدالة على وحدة الحكم، هي التي أوجبت التنافي بينهما. وعليه، فثبوت الحكم الواحد للمطلق ينافي ثبوته للمقيد، وإلا فمع عدم القرينة على وحدة الحكم، أو مع القرينة على تعدده، ينتفي الموجب لهذا الحمل؛ حيثيبقى المطلق على إطلاقه، غايته أن يدل المقيد على أن الفرد المقيد أكمل الأفراد؛ ومثاله: استحباب زيارة الحسين ؛ حيث وردت الإطلاقات في استحباب زيارته، فلما ورد المقيد في استحباب زيارته يوم عاشوراء أو يوم عرفة مثلا، لم نحمل المطلقات على هذا المقيد؛ إذ لا موجب له بعد ثبوت تعدد الحكم، وأنه يستحب زيارته كل يوم. وكذا لو قال المولى: (أكرم العالم)، ثم قال: (أكرم العالم العادل)، فإنه لا موجب لحمل المطلق على المقيد؛ إذ لا تنافي بينهما بعد كون المطلق شموليا، وأنه ينحل بانحلال أفراده، فيثبت لكل فرد حكم خاص. نعم، لو ثبت المفهوم للوصف، لكان معناه نفي الحكم الكلي عن العالم غير المتصف بالعدالة، فيحصل التنافي حينئذ بين المطلق والمقيد، ولا بد هنا من حمل المطلق على المقيد.
والخلاصة: إن الأدلة التي ذكرت لإثبات مفهوم الوصف لم يكتب لها التوفيق.



المبحث الثاني: الأدلة على عدم ثبوت المفهوم للوصف
قال صاحب الكفاية: "وأما الاستدلال على ذلك - أي عدم الدلالة على المفهوم - بآية ﴿وربائبكم اللاتي في حجوركم، ففيه أن الاستعمال في غيره أحيانا مع القرينة مما لا يكاد ينكر؛ كما في الآية قطعا، مع أنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة، أن لا يكون واردا مورد الغالب كما في الآية، ووجه الاعتبار واضح؛ لعدم دلالته معه على الاختصاص، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم، فافهم".
قد استدل بعض الأعلام على نفي المفهوم للوصف بقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ...[3]، فإن هذه الآية المباركة في مقام بيان المحرمات الأبدية، والتي منها الربيبة، وهي في الاصطلاح بنت الزوجة سواء عاشت مع زوج أمها أم لا؛ فإنه يحرم على زوج الأم بعد أن دخل بها أن يتزوج من ابنتها. وقد قيد الحق الربيبة بوصف، هو: (اللاتي في حجوركم)؛ أي التي تربت مع زوج أمها. وعليه، فبناء على مفهوم الوصف، فيكون الحكم، وهو تحريم الزواج من الربيبة، منتف بانتفاء الوصف؛ فيحل لزوج الأم حينئذ أن يتزوج ربيبته إن لم تكن في حجره، وهذا ما نفته الروايات؛ فإنها دلت على التحريم مطلقا؛ أي سواء تربت لديه أم لا، ومنها صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد الله قال: "سألته عن رجل كانت له جارية، وكان يأتيها فباعها، فأعتقت وتزوجت، فولدت ابنة، هل تصلح ابنتها لمولاها الأول؟ قال: هي عليه حرام"[4].
وفيه: أولا: إن هذه الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على نفي مفهوم الوصف؛ لأن حرمة الربيبة مطلقا إنما كانت للقرينة الخارجية، وهي الروايات الواردة في المقام والتي منها الصحيحة المتقدمة. ومن المعلوم أن موارد القرينة على ثبوت المفهوم للوصف أو نفيه عنه خارجة عن حريم النـزاع؛ فالقائل بالمفهوم لا ينكر عدم المفهوم لأجل القرينة؛ كما أن المنكر له يعترف به لأجل القرينة أيضا.
ثانيا: يشترط لاستفادة المفهوم من أي قضية وصفية أن لا يكون الوصف واردا مورد الغالب؛ إذ لا بد في دلالة الوصف على المفهوم من دلالته على أنه علة منحصرة لترتب الحكم على الموصوف، وهو يتصور فيما إذا كان الموصوف مما قد يتصف بالوصف ولا يتصف به. وأما إذا كان الموصوف ذا حالة واحدة، وهي حالة وجود الوصف فيه؛ لانتفاء حالة عدم اتصافه به، أو لكون عدم اتصافه به نادرا ملحقا بالعدم، كما في المقام؛ حيث الاتصاف غالبي، فلا يدل حينئذ على المفهوم؛ إذ المفروض أن الوصف ثابت له ترتب الحكم عليه أم لا، والله العالم.
فالخلاصة: الاستدلال على نفي مفهوم الوصف بهذه الآية المباركة لم يكتب له التوفيق.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo