< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/01/23

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الثالث: التمسك بالعام بعد التخصيص في الشبهة المصداقية

قال صاحب الكفاية: "وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق؛ بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون فردا له أو باقيا تحت العام، فلا كلام في عدم جواز التمسكبالعاملوكانمتصلابه؛ضرورةعدمانعقادظهورللكلامإلا في الخصوص، كما عرفت. وأما إذا كان منفصلا عنه، ففي جواز التمسك به خلاف، والتحقيق عدم جوازه".[1]

بعد الفراغ من الكلام عن التمسك بالعام بعد التخصيص في الشبهة الحكمية والمفهومية، بقي الكلام عن التمسك بالعام بعد التخصيص بمخصِّص مجمل مصداقا. وهذا المخصِّص تارة يكون متصلا، وأخرى منفصلا.

أما في صورة المخصِّص المتصل؛ فكما لو قال المولى: (أكرم كل عالم إلا الفساق منهم)، وفرضنا معرفة مفهوم الفاسق، وأنه يشمل مرتكب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ولكن شككنا في أن زيدا العالم فاسق أو غير فاسق لأجل الشبهة المصداقية، فهل يصح الرجوع إلى العام في هذه الصورة، وبالتالي نحكم بوجوب إكرام زيد، أو لا؟

لا خلاف بين الأعلام في عدم جواز التمسك بالعام ولا الخاص في هذه الصورة، فلا يكون المشكوك داخلا تحت العام، بل ولا داخلا تحت الخاص. أما الأول؛ فلوضوح أنه لم ينعقد للعام ظهور في العموم من أول الأمر؛ لانهدامه بالخاص المتصل، فيكون مراد المولى من أول الأمر العالم غير الفاسق. وعليه، فإذا شككنا في عالم أنه فاسق أم لا ليس بفاسق، فلا عموم له بالإضافة إليه حتى نتكلم في جواز التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.

وبتوضيح آخر: إن القضية لا تتكفل بإيجاد موضوعها في الخارج ولا نفيه، وإنما تتكفل بثبوت الحكم على فرض وجود الموضوع. ومن هنا قلنا: إن القضية الحملية ترجع في الحقيقة إلى القضية الشرطية؛ فقضية (الخمر حرام) ترجع إلى قضية (إن وُجِد الخمر في الخارج فهو حرام)، فكما أن القضية الشرطية لا تنظر إلى ثبوت شرطها أو نفيه، وإنما تنظر إلى ثبوت التالي على فرض وجود الشرط، وبالتالي إن شككنا في مائع هل هو خمر أم لا، لم يمكن التمسك بإطلاق ما دل على حرمة الخمر لإثبات أن هذا المائع خمر؛ فكذلك القضية الحملية تنظر إلى ثبوت الحكم على فرض وجود الموضوع، ولا نظر لها إلى ثبوت الموضوع أو نفيه، وبالتالي إن شككنا في زيد العالم هم هو فاسق أولا، لم يمكن التمسك بعموم العام لإثبات عدم فسق زيد، بل لا بد من دليل آخر لإحراز فسقه أو عدمه.
وعليه، في حال الشك في فسق زيد لشبهة خارجية، لا يمكن إثبات فسقه من خلال تلك القضية، ومع عدم إحراز الصغرى لا يمكن التمسك بالعام.
وأما الثاني؛ أي عدم جواز التمسك بالخاص لإدخال زيد تحته؛ فلأن الخاص حجة في الأفراد التي نحرز دخولها تحته، والفرض أننا لم نحرز فسق زيد، فلا يمكن إدراجه تحته.
هذا بالنسبة إلى المخصِّص المتصل. أما في صورة المخصِّص المنفصل؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم)، ثم قال: (ولا تكرم الفساق منهم)، وفرضنا معرفة مفهومالفاسق، وشككنا في انطباقه على زيد العالم؛ لشبهة خارجية، فهل يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية أو لا يصح؟

ذهب مشهور الأعلام إلى عدم صحة التمسك بالعام في هذه الصورة أيضا، إلا أنه نسب إلى بعض المتقدمين صحته، وربما نسب ذلك إلى بعض متأخري المتأخرين كصاحب العروة، وذلك من خلال بعض فتاويهم التي ادعي أنه لا يمكن توجيهها إلا من خلال الذهاب إلى صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد التخصيص المنفصل. وسنأتي على ذكر بعض هذه الفتاوى لنبين أنها ليست من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. ولكن قبل ذلك، نتطرق إلى ذكر أدلة ثلاث عل صحة التمسك بالعام في هذه الصورة.
الدليل الأول:
وهو غاية ما يمكن أن يستدل به على صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو أنه قبل ورود التخصيص في قول المولى: (أكرم كل عالم)، انعقد ظهور العام في العموم، فكان موضوع حكم الكبرى الواصلة؛ أي وجوب الإكرام، هو عنوان العالم بكل أقسامه. وبضم الصغرى الواصلة أيضا، وهي كون زيد عالما، يصبح زيد مشمولا بالعام وداخلا تحته قبل ورود التخصيص.
أما بعد التخصيص؛ كما في قول المولى: (لا تكرم الفساق منهم)، فينكشف مراد المولى الجدي، وهو أنه يريد إكرام خصوص العالم غير الفاسق، فتنهدم حجية العام بالنسبة إلى الخاص دون ظهوره في العموم، ويقدَّم الخاص لأظهريته، فنشك في دخول زيد العالم تحته، ولا يمكن التمسك بالخاص لإدخاله تحته؛ لأن القضايا -كما عرفت- لا تتصدى لإثبات مواضيعها أو نفيها؛ فقضية (لا تكرم الفساق منهم) لا تتصدى لتحديد الفاسق من غيره. وعليه، فلا يمكن التمسك بهذه الكبرى ما لم نحرز صغراها، وهو فسق زيد، والفرض أنه غير محرز.
وبالجملة، لا يكون زيد داخلا تحت الخاص، فيكون باقيا تحت العام. فتصبح النتيجة صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في صورة المخصِّص المنفصل؛ وذلك نظير تمسكنا به في الشبهة المفهومية في صورة المخصِّص المنفصل أيضا فيما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر، كما تقدم في الصورة الأولى من المبحث السابق.

هذا غاية ما يقال في الاستدلال على صحة التمسك بالعام في هذه الصورة، وجوابه: صحيح أن موضوع العام قبل التخصيص هو عنوان العالم بكل أقسامه، ولكن بعد التخصيص انهدمت حجية العام بالنسبة إلى الخاص، وانقلب موضوعه ليصبح خصوص العالم غير الفاسق؛ أي أصبح مركبا من جزأين: (العالم) و(غير الفاسق). وإن شئت فقل: إنه بعد ورود التخصيص يخرج العام؛ أي (العالم) مثلا، عن كونه تمام الموضوع، ويصير جزء الموضوع، والجزء الآخر هو (غير الفاسق)، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلى ما تكفله الخاص، ولا يكون مفاد العام حينئذ وجوب إكرام العالم سواء أكان فاسقا أم غير فاسق، بل يكون مفاد العام بضميمة المخصِّص هو وجوب إكرام العالم غير الفاسق. وعليه، فكما لو شك في أن زيدا عالم أو غير عالم من جهة الشبهة المصداقية، لا يصح التمسك بالعام بالنسبة إلى المشتبه بالاتفاق، فليكن كذلك لو شك في عنوان الخاص من جهة الشبهة المصداقية، فلا يصح التمسك بالعام حينئذ لإحراز حال المشتبه؛ لأنه لا فرق حينئذ بين مشكوك العلم وبين مشكوك الفسق بعدما كان لكل منهما دخل في موضوع الحكم.

والخلاصة: إنه بعد التخصيص يصبح الموضوع مركبا من جزأين: (العالم)، و(غير الفاسق)، والأول محرز بالنسبة إلى زيد دون الثاني، فينتفي المركب بانتفاء أحد أجزائه. ومع عدم إحراز موضوع العام، لا يمكن التمسك به لإدخال زيد تحته. كما لا يمكن التمسك بالخاص لإدخال زيد تحته؛ لما تقدم من أن الخاص حجة في أفراده المحرز دخولها تحته، والفرض أننا لم نحرز فسق زيد، فلا يمكن إدراجه تحته.

إن قلت: هذا الكلام قد يتم في القضايا الحقيقية؛ حيث لا تكون متعرضة للأفراد، وإنما يكون الحكم فيها مترتبا على العنوان بما أنه مرآة لما ينطبق عليه من الخارجيات، وليس لها تعرض لحال المصاديق، وإلا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس واستنتاج حكم الأفراد من ضم الصغرى إلى الكبرى.

وعليه، فكل فرد في القضية الحقيقية إنما يعلم حكمه بواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه. هذا بخلاف القضايا الخارجية التي ينصب فيها الحكم على الأفراد مباشرة. ومن هنا لم نحتج إلى تأليف القياس، وتطبيق الكبرى عليه، بل العام بنفسه في القضية الخارجية يكون متكفلا ابتداء بحكم الأفراد، وقد تعرض العام لحكم الفرد المشتبه قبل ورود التخصيص، وبعد ورود الخاص يشك في خروج الفرد المشتبه عن حكم العام، فالمرجع حينئذ إلى أصالة العموم، فيصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في القضايا الخارجية؛ فلو قال المولى: (أكرم كل من في الدار)، ثم قال: (لا تكرم أعدائي الذين هم في الدار)، وتردد حال زيد بين أن يكون من الأعداء أو لا؛ فحيث إن قوله أولا: (أكرم كل من في الدار) قد شمل زيدا، وتعرض لوجوب إكرامه، ولم يعلم خروجه بعد ذلك عن حكم العام، كان اللازم وجوب إكرامه لأصالة العموم وعدم التخصيص.

قلت: لا فرق بين القضايا الحقيقية والخارجية من هذه الجهة؛ فإن استعمال العام والخاص في كل منهما على نهج واحد؛ إذ بعد مجيء الخاص ينقلب موضوع العام من مطلق العالم إلى خصوص المركب من (العالم) و(غير الفاسق) في القضية الحقيقية. وفي القضية الخارجية يصبح الموضوع بعد التخصيص (من لم يكن عدوا له) لا (كل من في الدار وإن كان عدوا له)، وما لم نحرز موضوع العام بجزأيه لا يمكن التمسك به، وكذا لا يمكن التمسك بالخاص؛ لعدم إحراز موضوعه أيضا، فالمرجع إلى الأصل العملي.

ولا يقاس ذلك بالتمسك بالعام في الشبهة المفهومية في صورة المخصِّص المنفصل فيما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر؛ لأنه بعد خروج الأقل؛ أي مرتكب الكبيرة، من تحت العام لكونه القدر المتيقَّن من الخاص، يكون الشك في خروج الأكثر؛ أي مرتكب الصغيرة، شكا في التخصيص الزائد، فنتمسك بأصالة العموم. ومن هنا ترجع الشبهة المفهومية إلى الشبهة الحكمية. وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ فإن الشك فيه ليس شكا في التخصيص الزائد، وإنما هو شك في أنه من مصاديق العام بما هو حجة أو لا، وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لإحراز أنه من مصاديقه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo