< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/01/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الفتوى الثانية:
ومن جملة الفتاوى التي ذكرت لنسبة القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، هي أنه بعد ورود العموم في رواية "على اليد ما أخذت حتى تؤدي"[1][2][3] ، وورود تخصيص لهذا العام باليد الأمينة، فلو شككنا بيد هل هي عادية أم أمينة؟ فقد حكم المشهور بالضمان، وهذا الحكم متوقف على القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وينبغي الالتفات إلى أن هذا الكلام إنما يصح فيما لو كان المراد من اليد في العام مطلق اليد؛ أي الأعم من العادية والأمينة، فتكون اليد المشكوكة كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى عنوان المخصِّص، فيأتي الكلام حينئذ في صحة التمسك بالعام وعدم صحته. أما لو فرضنا أن المراد منها خصوص العادية، فتكون اليد الأمينة خارجة من أول الأمر من تحت العام خروجا تخصصيا، فلا خلاف على هذا الفرض في عدم صحة التمسك بالعام في هذه الصورة؛ لأن الشك حينئذ يكون في انطباق عنوان العام على اليد المشكوكة لا الخاص؛ كما إذا شك في عالمية زيد عند قوله: (أكرم كل عالم).
هذا حاصل ما قيل في نسبة القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى هذه الفتوى، وفيه: إنه كما يحتمل أن تكون هذه الفتوى مبنية على القول بصحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه يحتمل أيضا أنها مبنية على قاعدة المقتضي والمانع، وهو أنه لما كان المقتضي للضمان هو وضع اليد على مال الغير، والمانع هو الأمانة، فلو تحقق المقتضي وشككنا في المانع، فالأصل عدم المانعية.
كما يحتمل أيضا أن تكون هذه الفتوى مبنية على الاستصحاب، وتوضيحه: إن موضوع الضمان في العام قبل ورود التخصيص هو (اليد)، وبعد وروده صار الموضوع مركبا من (اليد) و(عدم رضا المالك)؛ أي هو مركب من عرضين لموضوعين؛ حيث إن الاستيلاء فعل قائم بصاحب اليد، وعدم الإذن والرضا الذي هو عرض قائم بالمالك. وقد يكون الموضوع مركبا من جوهرين، كأن يكون مركبا من وجود زيد ووجود عمرو، وقد يكون مركبا من عرضين لموضوع واحد؛ كعدالة زيد وعلمه؛ حيث إنهما موضوع لجواز تقليده، وقد يكون مركبا من جوهر وعرض لموضوع آخر؛ كما إذا تركب من وجود زيد وعدالة عمرو، وقد يكون مركبا من عرض وجوهر، وهذا العرض قائم بالجوهر؛ كما إذا تركب من زيد وعدالته.
ومهما يكن، فإنه لما كان الجزء الأول فيما نحن فيه، وهو الإستيلاء، حاصلا بالوجدان، وأما الثاني فيمكن تحصيله باستصحاب عدم رضا المالك، باستصحاب العدم الأزلي، كما يأتي توضيحه قريبا إن شاء الله تعالى، فيلتئم موضوع الضمان، فيكون دخول اليد المشكوكة تحت العام من هذا الباب لا من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وتنبغي الإشارة إلى أن اعتماد الفقيه على الاستصحاب - عند نزاع المالك مع المستولي على العين؛ حيث يدعي المستولي رضا المالك بذلك والمالك ينكر - إنما هو في مقام الإفتاء لا القضاء، فإن للأخير أدواته الخاصة، كما ورد في صحيح هشام بن الحكم عن أبي عبد الله قال: "قال رسول الله: إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له به قطعة من النار"[4].
وعليه، فلو تلفت العين في يد المستولي عليها، وطالبه المالك بالمثل أو القيمة، ففي هذه الحال لا يكتفى في مقام القضاء باستصحاب عدم إذن المالك ورضاه، بل يطالب صاحب اليد بالبينة على دعواه إذن المالك ورضاه بالتصرف. فإن لم يأت بالبينة، فللمدعي إحلاف المالكِ المنكرِ للإذن، فإن حلف قضى الحاكم بالضمان، وإن رد اليمين على المدعي، فإن حلف المدعي فلا ضمان عليه حينئذ، وتفصيل ذلك في مبحث القضاء.
وهناك صورة أخرى، وهي فيما لو أقر المالك بالإذن ولكن ادعى أنه حصل بيع، فزعم أن له في ذمة المأذون ثمن العين، بينما زعم الأخير أنه أخذ العين على نحو الهبة، فالقول حينئذ قول مدعي الهبة، وعلى مدعي البيع الإثبات.
لا يقال: إن صاحبَ اليد المنكرَ للبيع مدع أيضا؛ لأنه يدعي الهبة، فتكون المسألة من باب التداعي، فإنه يقال: إنه منكر للبيع في الواقع وإن عبر عنه بالهبة؛ وذلك لأن نصوص القضاء والدعوى على كثرتها لم تتعرض لتحديد المدعي والمنكر، فلا بد من الرجوع في تحديدهما إلى العرف، ومقتضاه اعتبار من يلزم بإثبات ما يقوله مدعيا، وصاحبه الذي لا يطالب به منكرا، من غير نظر إلى مصب الدعوى، فمن يلزم بالإثبات هو المدعي وعليه البينة بأي صيغة كان التعبير وإظهار الدعوى.
وعليه، ففي المقام أن للمالك يدعي اشتغال ذمة صاحب اليد بالثمن، وهو ينكر ذلك، ويدعي عدم اشتغال الذمة بشيء، وحينئذ إن أقام البينة على ذلك فهو، وإلا فله إحلاف المنكر؛ حيث إن قوله مطابق لأصالة عدم الضمان؛ يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن.
ثم لا يخفى عليك أن هذا الكلام كله فيما إذا كانت العين تلفة أو كانت الهبة معوضة، أو كان المنقول إليه ذا رحم، وإلا فله استرجاع المال من دون مرافعة؛ لأن العقد إن كان بيعا في الواقع، فبما أن المشتري لم يرد ثمنه، فله خيار الفسخ، وإن كان هبة كذلك؛ يعني في الواقع، فبما أنه جائزة حسب الفرض، فله فسخها واسترداد المال.
هذا تمام الكلام في جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصِّص المنفصل لفظيا. والله العالم.


[2]وسائل الشيعة، شیخ حر عاملی، ج25، ص428، كتاب إحياء الموات، باب12، ح3، ط آل البیت. وقد عمل المشهور بمضمون هذه الرواية رغم أنها ضعيفة بابن جندب وبالإرسال. وقد كان سمرة على شرطة ابن زياد يحرض الناس على قتال الحسين، وهو صاحب قضية الإضرار بالإنصاري المشهورة؛ فقد جاء في موثقة زرارة قال: "إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منـزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله، فشكا إليه وخبره الخبر، فأرسل إليه رسول الله وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى أن يقبل، فقال رسول الله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار".

[3]نقد الرجال، السيد مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، ج2، ص374. وقد نقل الشيخ عبد الحميد المدائني المعتزلي في شرح نهج البلاغة: أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي: >وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.<، وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: >وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ<، فلم يقبل: فبذل له مائتي ألف فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، انتهى".

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo