< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/02/15

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث السادس: صحة التمسك بالعموم مع عدم الشك في التخصيص

قال صاحب الكفاية: "وهم وإزاحة: ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد، لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى؛ كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل (أوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلَّقا للنذر؛ بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا؛ للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك".[1]

هذه المسألة من المسائل التي لا ينبغي التوهم فيها، ولكن لما طرحها بعض الأعلام، تعيَّن الخوض فيها وإزاحة وهمها. وحاصلها: تقدم سابقا أنه يصح التمسك بالعموم في الشبهات الحكمية مع الشك في التخصيص؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم)، واحتملنا تخصيص هذا العموم وأنه لا يريد إكرام الفساق منهم، فإنه في هذه الصورة يصح التمسك بالعموم لإكرام كل العلماء حتى الفساق منهم. والآن نبحث عن صحة التمسك بالعموم مع عدم الشك في التخصيص؛ كما إذا كان الشك لاحتمال فقدان شرط ونحوه، فإن الشك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ليس ناشئا من جهة احتمال التخصيص، بل هو ناشئ من احتمال اشتراط صحتهما بأن يكونا بالماء المطلق لو فرض إجمال في أدلة تشريعهما من هذه الجهة، بل ذهب الشيخ الصدوق إلى جواز الوضوء والغسل بماء الورد، ووافقه على ذلك الكاشاني.

وبالجملة، فلو فرضنا الشك في جواز ذلك، فإن بعضهم ذهب إلى جواز التمسك بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة هذا الوضوء أو الغسل إذا تعلق به النذر؛ كما لو قال: (لله عليَّ أن أتوضأ بمائع مضاف).
وبالجملة، فلو نذر المكلف الوضوء أو الغسل بالماء المضاف، وفرضنا الشك في جوازهما، فهل يمكن التمسك بعموم ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ[2] لإثبات جوازهما؟ ذهبالبعض إلى الجواز، وصحَّح الوضوء أو الغسل بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر.

يقول صاحب الكفاية أنه ربما يظهر في كلمات بعض الأعلام صحة التمسك بالعموم في هذه الصورة؛ أي في غير صورة الشك في التخصيص، وربما يؤيد ذلك تصحيح العبادات معلومة البطلان قبل تعلق النذر بها؛ كالإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر، فإنه بعد ثبوت صحتهما فيما إذا وقعا متعلقين للنذر، تثبت من باب أولى صحة العبادة مشكوكة البطلان؛ كالوضوء والغسل بالماء المضاف، فيما إذا وقعا متعلقا للنذر؛ تمسكا بعموم ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.

وبعد تحرير محل النـزاع، وقبل الخوض في خضم البحث، ينبغي التنبيه على أمور تتعلق بالمثالين اللذين ادعي كونهما مؤيدين للمدعى.

أولا: لا يقع النذر بأية صيغة، بل لا بد أن يكون بصيغة معينة، وهي أن يقول: (لله عليَّ كذا)، أو (عليَّ لله كذا)؛ وقد دلت على ذلك بعض الروايات، منها صحيحة عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله قال: "إذا قال الرجل: عليَّ المشي إلى بيت الله وهو محرم بحجة، أو عليَّ هدي كذا وكذا، فليس بشيء حتى يقول: لله عليَّ المشي إلى بيته، أو يقول: لله عليَّ أن أحرم بحجة، أو يقول: لله عليَّ هدي كذا وكذا إن لم أفعل كذا وكذا".[3]

ثانيا: يشترط في متعلق النذر الرجحان الشرعي؛ بأن يكون فعلا لواجب أو مستحب، أو تركا لحرام أو مكروه؛ وإنما فهـم ذلك من لام الملكية في الصيغة (لله
عليَّ)؛ فإن ما يكون لله لا بد أن يكون راجحا عنده.

ثالثا: تسالم الأعلام على عدم صحة الإحرام قبل الميقات، ومما دل على ذلك صحيحة الحلبي قال: "قال أبو عبد الله: الإحرام من مواقيت خمسة وقَّتها رسول الله، لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها، ووقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وهو مسجد الشجرة يصلى فيه ويفرض الحج، ووقَّت لأهل الشام الجحفة، ووقَّت لأهل النجد العقيق، ووقَّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقَّت لأهل اليمن يلملم، ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله "[4].

وكذا خبر ميسر قال: "دخلت على أبي عبد الله وأنا متغير اللون، فقال لي:منأين أحرمت؟ قلت: من موضع كذا وكذا، فقال: رُبَّ طالب خير تزِلُّ قدمه، ثم قال: يَسُرُّك أن صليت الظهر أربعا في السفر؟ قلت: لا، قال: فهو والله ذاك".[5]

ومنها موثقة حنَّان بن سدير، قال: "كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم القصير وزياد الأحلام حجاجا، فدخلنا على أبي جعفر، فرأى زيادا قد تسلخ جسده، فقال له: من أين أحرمت؟ قال: من الكوفة، قال: ولِمَ أحرمت من الكوفة؟!فقال: بلغني عن بعضكم أنه قال: ما بعد الإحرام فهو أفضل وأعظم للأجر، فقال: وما بلغك هذا إلا كذاب، ثم قال لأبي حمزة: من أين أحرمت؟ قال: من الربذة، قال له: ولِمَ؟! لأنك سمعت أن قبر أبي ذر بها، فأحببت أن لا تجوزه، ثمقاللأبيولعبدالرحيم:منأينأحرمتما؟فقالا: من العقيق، فقال: أصبتما الرخصة، واتبعتما السنة، ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير، وذلك أن الله
يسير، يحب اليسير، ويعطي على اليسير ما لا يعطي على العنف"[6].
ولكن ورد ما خصص هذا الحكم بما يدل على صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر من مكان محدد، وهي صحيحة الحلبي قال: "سألت أبا عبد الله عن رجل جعل لله عليه شكرا أن يحرم من الكوفة، قال: فليحرم من الكوفة، وليف لله بما قال".[7]وقد منع بعض الأعلام؛ كابن إدريس، الإحرام قبل الميقات مطلقا.
رابعا: هناك جملة من الروايات دلت على عدم صحة الصوم في السفر، ومنها صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن: "أنه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضان، فيصوم؟ قال : ليس من البر الصوم في السفر"[8].
ولكن ورد ما خصص هذا الحكم بما يدل على صحة الصوم في السفر بالنذر، وهي صحيحة علي بن مهزيار قال: "كتب بندار مولى إدريس: يا سيدي، نذرت أن أصوم كل يوم سبت، فان أنا لم أصمه، ما يلزمني من الكفارة؟ فكتب وقرأته لا تتركه إلا من علة، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلا أن تكون نويتَ ذلك،وإن كنت أفطرت منه من غير علة فتصدق بقدر كل يوم على سبعة مساكين، نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى"[9]. وبما أن هذه الرواية على خلاف القاعدة، وهي عدم صحة الصوم في السفر، فيقتصر فيها على القدر المتيقَّن، وهو فيما إذا ذكر في نذره الصوم في السفر، أو الصوم في السفر والحضر، فلا يكفيه أن يطلق؛ كما لو قال: (لله علي أن أصوم يوما) مثلا.

ولا تقدح جهالة الكاتب، ولا إضمار المكتوب إليه؛ لشهادة ابن مهزيار بأنه الإمام؛ حيث قال: "فكتب وقرأته". كما لا يضر الاستدلال بها وجود بعض المناقشات؛ كالنقاش في احتمال أن لا يكون المراد ﺑ(نويتَ ذلك) في الرواية هو النذر، أو النقاش في أن الاستثناء في قوله: "إلا أن يكون نويتَ ذلك"، هو استثناء من عدم صحة الصوم في السفر والمرض معا؛ حيث يلزم أن يصح صوم الناذر ولو كان مريضا كما صح صوم الناذر في السفر، أو النقاش في أن كفارة النذر مثل كفارة اليمين؛ أي إطعام عشرة مساكين لا سبعة كما جاء في الرواية. وبالجملة، فإن هذه المناقشات لا تضر بصحة الاستدلال. والله العالم.
إذا عرفت ذلك، فنرجع إلى أصل المطلب، فبعد أن ذكر صاحب الكفاية ما قد يظهر من بعض الأعلام أنهم ذهبوا إلى صحة التمسك بالعموم فيما لو لم يكن الشك في التخصيص، احتمل أن يؤيدوا مقولتهم بمثل تصحيح العبادات معلومة البطلان قبل تعلق النذر بها؛ كالإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر، باعتبار أن تصحيح العبادات مشكوكة البطلان؛ كالوضوء والغسل بالماء المضاف، فيما إذا وقعا متعلقا لنذر؛ تمسكا بعموم ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أولى حينئذ من تصحيح العبادات فيما إذا وقعت متعلقة للنذر؛ كالإحرام قبل الميقات، والصوم في السفر؛ حيث إنهما معلوما البطلان قبل تعلق النذر بهم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo