< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/08/15

بسم الله الرحمن الرحیم

مسألتان :
الأولى:
ذكرنا أن الامتثال التفصيلي هو الامتثال وفق علم وجداني تفصيلي، أو ظن معتبر تفصيلي، أو أصل عملي. والفارق بين الامتثال وفق العلم الوجداني التفصيلي والقسمين الآخرين، هو أنه في صورة العلم الوجداني التفصيلي لا مورد للاحتياط؛ كما لو قطع المكلف أن وظيفته الإتمام، فلا معنى حينئذ ليحتاط بالتقصير. أما في صورة الظن المعتبر التفصيلي والأصل العملي، فالاحتياط وارد؛ لاحتمال الخلاف.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا قام دليل غير القطع على مسألة؛ حيث احتمل أن الواقع خلاف ما دل عليه الدليل، فهل يمكن الاحتياط في هذه الصورة بإتيان الفرد المحتمل قبل الإتيان بالفرد المظنون الذي دل عليه الدليل؟
مثاله: لو سافر المكلف بريدا - أي أربعة فراسخ - وأراد الرجوع في يومه، فهنا اتفق الأعلام على وجوب التقصير. أما لو لم ينو الرجوع في يومه، فهنا حصل خلاف بين الأعلام، فذهب جماعة منهم الشيخ الأنصاري إلى وجوب الإتمام، وذهب جماعة منهم السيد الشيرازي الكبير إلى وجوب التقصير. وبناء عليه، فهل يصح تقديم الفرد المحتمل على الفرد المظنون؛ أي الإتيان بالصلاة قصرا قبل الإتيان بها تماما لدى من ذهب إلى وجوب الإتمام، والإتيان بها تماما قبل الإتيان بها قصرا لدى من ذهب إلى وجوب التقصير؟
ذهب الميرزا النائيني إلى عدم جواز تقديم المحتمل على المظنون وفقا لما اختاره سابقا من كون الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيلي. وذكر أيضا أن هذا - أي عدم جواز تقديم المحتمل على المظنون - هو الوجه في الخلاف الواقع بين شيخنا الأنصاري والسيد الشيرازي الكبير في دوران الأمر بين القصر والتمام لمن سافر إلى أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع في يومه.
والتحقيق: أما من الجهة الفقهية، فمحلها في علم الفقه في مبحث صلاة المسافر، ولكن نقول باختصار شديد: إن الحق ما ذهب إليه السيد الشيرازي الكبير؛ وتدل عليه صحيحة معاوية بن وهب قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ قال ( بريدذاهباوبريدجائيا )[1]؛ فإن مقتضى إطلاق هذه الصحيحة هو وجوب التقصير بقطع أربعة فراسخ سواء أراد الرجوع في يومه أم لا.
وأما صحيحة ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن التقصير، قال: في بريد، قال: قلت بريد؟ قال: إنه ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه)[2]، فهي لا تصلح لتقييد وجوب التقصير بمن أراد الرجوع في يومه؛ لأن تعبير الإمام ﺑ(فقد شغل يومه) إشارة إلى أن قطع بريدين يشغل يوما عادة، لا أنه يشترط قطعهما في يوم واحد حتى يوجب التقصير[3]. أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من وجوب التقصير على أهل مكة في عرفات رغم أنهم لا يرجعون في يومهم، بل يبيتون في المزدلفة، فإن هذه الأخبار تدل على ما ذهبنا إليه، ومنها صحيحة معاوية بن عمار أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام) : ( إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال: ويلهم أو ويحهم، وأي سفر أشد منه؟! لا، لا تتم)[4].
هذا بالنسبة إلى الجهة الفقهية في المسألة، وأما بالنسبة إلى جواز الإتيان بالمحتمل قبل المظنون، فالإنصاف جوازه؛ لما عرفت من أن الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي، بل جوازه ممكن هنا حتى على مبنى الميرزا الذي ذهب إلى أن الامثتال الإجمالي في طول التفصيلي؛ لأنه في هذه الصورة سيأتي المكلف بالامثتال التفصيلي على جميع التقادير سواء كان قبل الإتيان بالمحتمل أم بعده، لا أنه سيأتي بالامتثال الاحتمالي دون التفصيلي حتى يقال بالبطلان. وهذا بخلاف ما ذكره هناك من عدم صحة الامتثال الإجمالي إذا أمكن الامتثال التفصيلي؛ وذلك لأن المسألة هناك مبنية على الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع تمكنه من الامتثال التفصيلي، وأما هذه المسالة، فإنه سيأتي بالامتثال التفصيلي سواء قدَّم عليه الامتثال الاحتمالي أم لا.
الثانية:
إذا لم يحصل للمكلف قطع بالمسألة، ولم يمكنه الظن الخاص؛ أي قلنا بالانسداد الكبير، فهنا لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والامتثال وفق الظن المطلق، فأيهما يقدَّم؟
أما على مبنانا، فبما أنه جاز الامتثال الإجمالي مع الامتثال التفصيلي في صورة انفتاح باب العلم والعلمي، فجوازه هنا أولى، كما لا يخفى.
وأما على مبنى القائلين بعدم جواز الامتثال الإجمالي مع الامتثال التفصيلي، فهنا ينبغي التفصيل: فبناء على (الكشف) في مبحث الانسداد؛ أي إن نتيجة مقدمات الانسداد تكشف عن أن الشارع المقدس جعل مطلق الظن حجة إلا ما استثني؛ كالظن الحاصل من القياس أو الاستحسان. وعليه، فبناء على الكشف لا يصح الاحتياط؛ وذلك لأن من ضمن مقدمات الانسداد التي ينتج عنها القول بالكشف هو عدم جواز العمل بالاحتياط؛ إما للإجماع، أو لعدم إمكان قصد الوجه والتمييز -بناء على اعتبارهما -، وبالتالي يصبح حكم الظن المطلق كحكم الظن الخاص المعتبر، ومعه لا يجوز العمل بالاحتياط مع إمكان العمل بالظن المطلق، وهذا واضح.
وأما على الحكومة؛ بمعنى أن العقل الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة والامتثال يلزم المكلف بعد تمامية المقدمات بالامتثال الظني، وعدم التنـزل إلى الامتثال الشكي والوهمي؛ أي يحكم العقل بتبعيض الاحتياط في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام، فيتنـزل إلى الاحتياط الناقص، وهو الأخذ بالظن. فعلى هذا القول يجوز الاحتياط حينئذ؛ أي الامتثال الإجمالي؛ لأن القول بالحكومة مبني على عدم وجوب الاحتياط التام؛ إما لعدم إمكانه، أو لكونه مستلزما لاختلال النظام، أو العسر والحرج، ولا توجد فيه كشف، كما لا يخفى، فيصح الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال بالظن المطلق.
هذا تمام الكلام في مبحث القطع، وقد تم الفراغ منه عصر يوم الأربعاء 15 شعبان سنة 1436ﻫ، الموافق ﻟ3 حزيران سنة 2015م. وأنا العبد الفقير المحتاج إلى رحمة ربه الغني، حسن بن علي الرميتي العاملي (عامله الله بلطفه الخفي وغفر لوالديه)، إنه سميع مجيب. وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإكمال بقية الأبحاث، فإنه أكرم المسؤولين، وأجود المعطين، وأرحم الراحمين، وخير الموفقين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



[3] قال صاحب الوسائل: ( أقول: في هذا أيضا دلالة على أن المسافة هنا مجموع الذهاب والإياب، وقد أشير في هذا الموضع إلى الجمع بين أحاديث الأربعة فراسخ، وبين ما روي أن أقل مسافة القصر مسيرة يوم، وليس فيه دلالة على اشتراط الرجوع ليومه؛ لورود مثل هذه العبارة، بل أبلغ،ها في الثمانية فراسخ كما مر، ولا يشترط قطعها في يوم واحد اتفاقا ) . وسائل الشيعة في تعليقه على الرواية السابقة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo