< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/11/23

بسم الله الرحمن الرحيم

وتوضيحه : لا يخفى أنه لو لم يمض الشارع العمل بالأمارات غير العلمية، وأوجب القطع في كل مسألة، للزمت المشقة على المكلفين، لا سيما مع تقدُّم الزمان والابتعاد عن عصر النص. ولكن لو تعبدنا بالأمارات غير العلمية، لسهَّل على النوع الإنساني، ومصلحة التسهيل النوعية مقدَّمة على المصلحة الشخصية التي قد تفوت بعدم إدراك الواقع، وكذلك الملاكات النوعية، فهي مقدَّمة على الملاكات الشخصية؛ كما في حكمه بطهارة الحديد رغم توفر ملاك النجاسة فيه، إلا أن الله تعالي حكم بطهارته تسهيلا على العباد؛ لتوقف كثير من أمور معاشهم على استعمال الحديد، فكان الحكم بنجاسته موجبا للعسر والحرج على المكلفين. وحكمه باستحباب الاستياك رغم توفر ملاك الوجوب فيه، فإن الشارع قد يفوِّت علينا مصلحة شخصية مهمة؛ كمصلحة الاستياك، في سبيل تحصيل مصلحة نوعية أهم، وهي مصلحة التسهيل على المكلفين.

إذًا، الإنصاف أن التعبد بالأمارة ممكن، وإن لزم تفويت مصلحة شخصية، من أجل مصلحة التسهيل التي تناسب الملة السمحة والشريعة السهلة.

وإن أبيت عن ذلك، باعتبار أن مصلحة التسهيل لا تصح رعايتها، فذكر بعضهم أنه يمكن الالتزام بالسببية على وجه يتدارك بها المصلحة الفائتة من دون أن يلزم التصويب الباطل.

وبعبارة أخرى: إن التعبد بالأمارة ممكن؛ لأن في سلوكها مصلحة يتدراك به ما فات من مصلحة الواقع، وهذا ما يعرف ﺑ(المصلحة السلوكية)، أو قل: إن سلوك الأمارة سبب لتدارك المصلحة الفائتة.

وتفصيله: هناك ثلاثة أقوال في سببية الأمارة:

الأول : السببية الأشعرية:

وهي بمعنى أنه ليس في الواقع حكم مع قطع النظر عن قيام الأمارة، بل يكون قيامها سببا لحدوث مصلحة موجبة لجعل الحكم على طبق الأمارة. وعليه، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في حق العالم بها، ولا يكون في حق الجاهل بها سوى مؤديات الطرق والأمارات، فتكون الأحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين. ولكن بناء على ذلك يرتفع الإشكال من أصله؛ إذ عليه لا يكون في الواقع حكم يكون التعبد بالأمارة موجبا لفوات المصلحة على المكلف أو إلقائه في المفسدة، ولكن السببية بهذا المعنى باطلة، بل يلزم منها الدور، كما ذكرنا ذلك في مبحث الإجزاء، وهذا وقد ادعى تواتر الأخبار على أن الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل أصابها من أصاب، وأخطأها من أخطأ.

الثاني : السببية المعتزلية:

وهي بمعنى أن الأحكام الواقعية ثابتة في اللوح المحفوظ، وهي مشتركة بين العالم والجاهل قبل وصول الأمارة ونظر المجتهدين فيها، إلا أنه بعد وصول الأمارة وإفتاء المجتهد، فإن كانت فتواه مطابقة للواقع، فبها ونعمت، وإلا فإن الأمارة تكون سببا في حصول مصلحة في متعلقها أقوى من مصلحة الواقع، فيترتب على هذه المصلحة حكم واقعي جديد بدل السابق.

وعلى هذا القول، لا مجال للإشكال أيضا؛ إذ مع قيام الأمارة على خلاف الحكم الواقعي، يكون الحكم الواقعي الأهم هو مؤداها، فلا يلزم تفويت المصلحة، أو الإلقاء في المفسدة، ولكن هذا المعنى للسببية باطل أيضا؛ للزومه التصويب المتسالم على بطلانه عندنا، وإلا فلولا التسالم لانتفى البأس ثبوتا عن كون الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الأمارة على خلافه. كما أنه مقيد فعلا بعدم الحرج والضرر، ولا محذور في ذلك، ولكن الإشكال في مقام الإثبات؛ فإنه قام الدليل عندنا على أن الحكم الواقعي الأولي مقيد بأدلة نفي الحرج والضرر. وأما تقييده بعدم قيام الأمارة على خلافه، فيحتاج إلى الدليل عليه، وهو مفقود، بل تسالم الأعلام عندنا على العدم. أضف إلى ذلك أنه يلزم من السببية بهذا المعنى اختصاص الأحكام بالعالم، وهذا خلف؛ لفرض اشتراكها بين العالم والجاهل.

الثالث : السببية وفق المصلحة السلوكية:

وهي بمعنى أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من دون أن يحدث في المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة، بل المصلحة إنما تكون في سلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها، والبناء على أنه هو الواقع. وبهذه المصلحة السلوكية يتدراك ما فات على المكلف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه.

ثم إنه لا بد وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك؛ فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وعمل المكلف على طبقها، ثم تبين مخالفة الأمارة للواقع، وأن الواجب هو صلاة الظهر؛ فإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء وقت الفضيلة، فبمقدار ما فات من المكلف في فضل أول الوقت، يجب أن يتدارك، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء تمام الوقت، فاللازم هو تدارك ما فات منه من المصلحة الوقتية. وإن لم ينكشف الخلاف إلى الأبد، فالواجب هو تدارك ما فات منه من مصلحة أصل الصلاة. والسببية بهذا المعنى قد اختارها الشيخ الأنصاري ووافقه الميرزا النائيني ، وبناء على ذلك يندفع الإشكال أيضا؛ إذ عليه يتدارك ما فات من مصلحة الواقع، فلا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.

ثم لا يخفى أن السببية بهذا المعنى لا تمس المؤدى، بل هو باق على ما كان عليه، ولا يحدث فيه مصلحة بسبب قيام الأمارة، وإنما المصلحة كانت في السلوك، وأخذ الأمارة طريقا إلى الواقع من دون أن تمس الأمارة كرامة المصلحة والحكم الواقعي بوجه من الوجوه. وبهذا افترقت عن السببية بالمعنى الأول والثاني.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo